في قاعة مؤتمرات بالقاهرة، يقف رجلان خلف منصة مشتركة - أحدهما من أكبر شركات الشحن في العالم، والآخر يدير إحدى أهم الممرات المائية على وجه الأرض. تصريحاتهما المتفائلة حول "العودة التدريجية للحركة الطبيعية" تخفي وراءها واقعاً معقداً: منذ يناير 2024، يدفع ملايين اليمنيين ثمن معادلة اقتصادية لم يختاروها، حيث تحولت سفن التجارة العالمية من مضيق باب المندب إلى رحلة أطول حول القارة الأفريقية، تاركة وراءها اقتصاداً محلياً ينزف بصمت.
الخريطة الجديدة للتجارة العالمية
لفهم حجم التأثير على الاقتصاد اليمني، نحتاج أولاً لرسم خريطة واضحة للطرق التجارية المتنافسة. مضيق باب المندب، الذي يتحكم اليمن في جانبه الشرقي، يمثل البوابة الجنوبية للبحر الأحمر وصولاً إلى قناة السويس. هذا الممر، الذي لا يتجاوز عرضه 18 ميلاً بحرياً في أضيق نقطة، يحمل أهمية استراتيجية هائلة - فهو يختصر المسافة بين آسيا وأوروبا بآلاف الأميال البحرية.
الطريق البديل، عبر رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، يضيف ما بين 10-14 يوماً إضافياً لرحلة الشحن، وفقاً لبيانات المنظمة البحرية الدولية. هذا الالتفاف ليس مجرد إزعاج لوجستي - بل معادلة اقتصادية معقدة تؤثر على تكلفة كل سلعة مستوردة تصل إلى الموانئ اليمنية.
تاريخياً، شكل باب المندب شريان الحياة للتجارة اليمنية منذ عصور التوابل القديمة. اليوم، مع تحويل حركة الشحن، فقد الميناء الاستراتيجي في عدن ما يقدر بـ 40% من حركة الترانزيت المعتادة، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، مما يعني خسارة مباشرة في الإيرادات الحكومية وفرص العمل.
حساب التكلفة: الأرقام تتكلم
التكاليف الإضافية للشحن عبر رأس الرجاء الصالح لا تختفي في الفراغ - بل تنتقل مباشرة إلى أسعار السلع في الأسواق اليمنية. كل يوم إضافي في البحر يعني استهلاكاً أكبر للوقود، ورواتب أطقم إضافية، وتكاليف تأمين مرتفعة. الخبراء الاقتصاديون يقدرون أن تكلفة الشحن للحاوية الواحدة ارتفعت بنسبة تتراوح بين 15-25% منذ بداية التحويل.
هذه الزيادة في تكاليف الشحن تترجم مباشرة إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية في اليمن. منظمة الأمم المتحدة للتنسيق الإنساني تشير إلى أن معدل التضخم في اليمن وصل إلى مستويات تفوق 30% في 2024، والجزء الأكبر منه مرتبط بارتفاع تكاليف الاستيراد.
المقارنة العملية تكشف عن الصورة الكاملة: شحن حاوية من شنغهاي إلى عدن عبر باب المندب كان يستغرق 18 يوماً، بينما الطريق عبر رأس الرجاء الصالح يتطلب 28-32 يوماً. هذا الفارق الزمني يعني تكلفة إضافية تقدر بـ 800-1200 دولار للحاوية، تكلفة تنعكس حتماً على أسعار الأرز والقمح والوقود والأدوية التي يستوردها اليمن.
من يدفع الثمن؟ التأثير على الاقتصاد اليمني
القطاعات الاقتصادية اليمنية الأكثر تضرراً تتوزع على ثلاثة محاور رئيسية. أولاً، قطاع الموانئ والخدمات اللوجستية، حيث فقد ميناء عدن وحده أكثر من 3000 فرصة عمل مباشرة منذ بداية العام، وفقاً لتقرير مكتب الأمم المتحدة للتنسيق الإنساني. العاملون في خدمات الشحن والتفريغ والنقل البري يواجهون انخفاضاً حاداً في الدخل.
ثانياً، القطاع التجاري المحلي يكافح مع ارتفاع تكاليف الاستيراد. التجار الصغار، الذين يشكلون العمود الفقري للاقتصاد اليمني، يجدون أنفسهم محاصرين بين ارتفاع التكاليف وانخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين. عبدالله الحكيمي، تاجر في صنعاء، يلخص الوضع: "ما كان يصل بـ 1000 ريال، أصبح سعره 1400 ريال، والناس لا تستطيع الشراء".
ثالثاً، الإيرادات الحكومية من الرسوم الجمركية ورسوم الموانئ انخفضت بشكل كبير. مع تقلص حركة الترانزيت التجارية، فقدت الحكومة مصدر دخل مهم كان يساهم في تمويل الخدمات الأساسية. البنك الدولي يقدر أن الناتج المحلي الإجمالي اليمني انكمش بنسبة 1.5% في 2025، والجزء الأكبر من هذا الانكماش مرتبط مباشرة بتراجع النشاط التجاري في الموانئ.
بين الأمل والواقع: ماذا تعني عودة مايرسك؟
تصريحات فنسنت كليرك، الرئيس التنفيذي لمايرسك، تحمل شرطاً جوهرياً: "فور توفر الظروف الملائمة". هذا التعبير الدبلوماسي يخفي معايير محددة وصارمة لعودة الشحن التجاري. شركات التأمين البحري تطلب ضمانات أمنية واضحة، وتقييمات مخاطر مستمرة، وبروتوكولات حماية متقدمة.
التقييم الواقعي لاحتمالات تحقق هذه الشروط يكشف عن تحديات معقدة. المطلوب ليس فقط وقف الهجمات على السفن، بل بناء آليات ضمان طويلة المدى للأمان البحري. خبراء التأمين البحري يشيرون إلى أن عودة الثقة في الممر المائي تحتاج إلى فترة "اختبار" لا تقل عن 6-9 أشهر من الهدوء الكامل.
الخطوات العملية المطلوبة لاستعادة الثقة تشمل تطوير نظام مراقبة بحرية متقدم، وتنسيق أمني دولي، وضمانات من جميع الأطراف المؤثرة في المنطقة. هذه العملية المعقدة تتطلب إرادة سياسية قوية وموارد مالية ضخمة، مما يجعل "الأمل الحذر" الذي عبرت عنه مايرسك مفهوماً، لكن تحقيقه قد يستغرق وقتاً أطول مما يتوقعه المتفائلون.
خيارات اليمن: استراتيجيات للمستقبل
البدائل المتاحة لليمن لتعويض الخسائر الحالية تتطلب رؤية استراتيجية طويلة المدى. الاستثمار في تطوير الموانئ والخدمات اللوجستية يمكن أن يحول التحدي الحالي إلى فرصة للتحديث والتطوير. ميناء عدن، بموقعه الاستراتيجي، يحتاج إلى استثمارات في التكنولوجيا والبنية التحتية ليصبح مركزاً لوجستياً إقليمياً قادراً على المنافسة.
تطوير الخدمات المالية والتجارية المرتبطة بالشحن يمكن أن يخلق قيمة مضافة أكبر من مجرد رسوم العبور. برامج التدريب المهني للعاملين في القطاع البحري، وتطوير الصناعات المساندة مثل صيانة السفن وتجهيز المؤن، كلها استراتيجيات يمكن أن تخفف من الاعتماد الكامل على حركة الترانزيت.
الرؤية المستقبلية لدور اليمن في التجارة الإقليمية تتطلب استغلال الموقع الجغرافي الفريد كجسر بين القارات. التعاون مع الدول المجاورة، خاصة السعودية ودول الخليج، في تطوير شبكة نقل متكاملة يمكن أن يحول اليمن إلى مركز توزيع إقليمي، بدلاً من مجرد نقطة عبور.
الخلاصة واضحة: بينما ينتظر الاقتصاد اليمني عودة السفن العملاقة إلى باب المندب، الحل الحقيقي يكمن في بناء اقتصاد أكثر تنوعاً ومرونة. المقارنة بين طريق رأس الرجاء الصالح وباب المندب ليست فقط مسألة أميال بحرية وتكاليف شحن - بل فرصة لإعادة تعريف دور اليمن في خريطة التجارة العالمية. الثمن الذي يدفعه اليمنيون اليوم مرتفع، لكن الاستثمار في المستقبل يمكن أن يحول هذا التحدي إلى قصة نجاح اقتصادي حقيقية.