في مقابلة تلفزيونية استثنائية، تجرأ الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي على قول ما تصمت عنه العواصم العربية: إن أمن البحر الأحمر يُعاد تشكيله بقوة السلاح خارج سيطرة الدول الساحلية. بينما تحافظ صنعاء على صمت محبط حول مصير جزرها الاستراتيجية، يتحدث الرئيس الإرتيري بصراحة عن الخطر الذي يهدد المنطقة برمتها، ويطرح رؤية لم تجرؤ الحكومة اليمنية على تبنيها رغم أنها الأولى بها والأحق في طرحها.
العدسة الأولى: المنظور الأفريقي الاستراتيجي
يكشف الدكتور محمد صالح، الباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية، الدوافع الحقيقية وراء تصريحات أفورقي التي فاجأت المراقبين بجرأتها وتوقيتها. "الرئيس الإرتيري انطلق في حديثه عن مخاطر إنشاء القواعد بهاجس رئيسي؛ ففي هذه الفترة هناك حرب تصريحات بينه وبين الحكومة الإثيوبية حول ميناء عصب". هذا التفسير يضع التصريحات في سياقها الجيوسياسي الأوسع، حيث تسعى إثيوبيا بقوة لاستعادة منفذها البحري المفقود منذ استقلال إرتيريا.
لكن التحليل يتعمق أكثر عندما يربط صالح بين التهديد الإثيوبي والمخاوف من القاعدة المحتملة في جزيرة زقر اليمنية. "هناك معلومات تفيد بأنه يجري العمل على إنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة زقر اليمنية، ولم يسمِّ الدولة التي تقوم بذلك، لكن الجهة التي تعمل على هذه المسألة معروفة". هذا التحفظ في التسمية يعكس حساسية الموضوع وتعقيد الشبكة الإقليمية المتورطة في المشروع.
الأخطر في التحليل هو الكشف عن التحالفات الخفية التي تهدد المنطقة: "الإمارات متحالفة مع إسرائيل، وأثيوبيا لديها قوة دفع كبيرة من الإمارات وإسرائيل، وتعوّل كثيراً على دعمهما للعودة إلى البحر الأحمر". هذا التشخيص يضع اليد على الجرح الحقيقي: تحالف ثلاثي يسعى لإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة عبر السيطرة على النقاط الاستراتيجية، بينما تبقى الحكومة اليمنية عاجزة عن الرد بنفس الوضوح والحزم.
إن حكمة الربط الإرتيري بين الجزر اليمنية والأمن الإقليمي كوحدة جيواستراتيجية واحدة تظهر مستوى من الوعي الاستراتيجي يفتقر إليه الخطاب الرسمي اليمني. أفورقي يتعامل مع التهديد كما يجب: بنظرة شمولية تتجاوز الحدود السياسية إلى الحدود الجغرافية الطبيعية للأمن المشترك.
العدسة الثانية: الغضب الشعبي والصمت الرسمي
من جانب آخر، يقدم الناشط السياسي وديع عطا شهادة مؤلمة عن حال اليمنيين المحبطين من عجز حكومتهم. "تصريحات الرئيس الإريتري أسياس أفورقي فاجأتنا كثيراً كيمنيين؛ أولاً لأن المعلومات المسبقة لدينا بأن هناك علاقات تاريخية قائمة ما بين أريتريا وإسرائيل". هذه المفاجأة تعكس مدى التغير في المواقف الإقليمية وتعقيد الحسابات الجيوسياسية.
لكن الأمر يصبح أكثر إيلاماً عندما يكشف عطا الحقيقة المرة: "عملياً أستطيع أن أقول إن الجزر اليمنية في البحر الأحمر خرجت تماماً من تحت أي سيطرة يمنية منذ 2019، في ظل صمت حكومي مطبق". هذا الاعتراف بفقدان السيطرة يضع الحكومة اليمنية في موقف محرج أمام شعبها وأمام المجتمع الدولي.
التسلسل الزمني الذي يسرده عطا يكشف مأساة حقيقية: من سيطرة الحوثيين الرمزية نهاية 2015، إلى استلام "حراس الجمهورية" المدعومين إماراتياً في أغسطس 2019، وصولاً إلى الوضع الحالي حيث "لم يصبح هناك أي تواجد لوزارة الدفاع في أرخبيل حنيش". هذا التدهور التدريجي للسيادة اليمنية حدث تحت أنظار الحكومة الشرعية دون أي رد فعل واضح أو موقف حازم.
الأسوأ هو الشعور بالعجز الذي يعبر عنه عطا: "الأمور في الأخير ترتبط بحسابات إقليمية أكبر من الحكومة اليمنية وأكبر من الدول الضعيفة التي تحكم اليوم". هذا الإقرار بالضعف، رغم صدقه، يطرح السؤال: لماذا لا تبحث الحكومة اليمنية عن تحالفات إقليمية قوية كما فعلت إرتيريا عندما تحدثت بوضوح عن التهديد المشترك؟
العدسة الثالثة: التقليل العسكري والواقعية السياسية
في المقابل، يقدم العميد عبد الرحمن الربيعي، المحلل العسكري، وجهة نظر مختلفة تماماً تقلل من حجم التهديد وتبرر الوضع القائم. "ليست هناك أي مخاوف على الإطلاق" يؤكد الربيعي، محاولاً طمأنة الرأي العام اليمني بأن الأمور تحت السيطرة وأن التهديدات مبالغ فيها.
يطرح الربيعي نظرية "التهويل لجذب الانتباه" لتفسير تصريحات أفورقي: "هذه العوامل فيها نوع من التهويل وفيها نوع من محاولة لفت الانتباه، بمعنى: لماذا لم تذكروني؟ أو أكون في صلب هذا التنافس والاستحواذ كما هو حال أريتريا الآن". هذا التفسير يحاول تجريد التصريحات الإرتيرية من مضمونها الاستراتيجي ويقدمها كمحاولة للحصول على اهتمام دولي.
الأهم في موقف الربيعي هو تبريره للتواجد الإماراتي: "هذا التواجد الإماراتي هو تحت مبرر وغطاء الشرعية الموجودة بقواتها في جزيرة حنيش وزقر، وهناك تعاون ما بين قوات الحكومة الشرعية ودولة الإمارات، وهذا شيء معترف به". هذا الموقف يعكس واقعية سياسية مؤلمة: قبول الأمر الواقع وتبريره كأفضل الخيارات المتاحة في ظل الظروف الراهنة.
لكن هذا الموقف، رغم واقعيته، يثير تساؤلات جوهرية: هل هذا التبرير يخدم المصلحة الوطنية اليمنية على المدى الطويل؟ وهل يمكن الثقة في أن "التعاون" مع الإمارات سيحافظ على السيادة اليمنية على الجزر؟ إن الثقة التي يبديها الربيعي في قوات حراس الجمهورية والساحل الغربي تبدو مفرطة في ضوء التطورات الإقليمية المتسارعة.
الحقيقة خلف التباين: لماذا جرؤ أفورقي ولم تجرؤ صنعاء؟
إن الفارق الصارخ بين الجرأة الإرتيرية والتحفظ اليمني يكشف عن اختلاف جوهري في المرونة السياسية والقيود الدبلوماسية. أفورقي، الذي يتمتع بحرية أكبر في اتخاذ المواقف، استطاع أن يطرح رؤية استراتيجية واضحة دون قيود التحالفات المعقدة التي تقيد الحكومة اليمنية.
الحكومة اليمنية، المقيدة بحساباتها مع التحالف العربي وخاصة الإمارات، تجد نفسها في موقف حرج: كيف تنتقد سلوك حليف أساسي دون أن تفقد دعمه؟ هذا الصراع بين المبادئ السيادية والحاجة للدعم يفسر الصمت "المطبق" الذي أشار إليه وديع عطا.
لكن الأهم هو أن تصريحات أفورقي تفتح نافذة أمل للحكومة اليمنية: إمكانية بناء تحالف إقليمي جديد مع الدول الساحلية للبحر الأحمر، تحالف يقوم على أساس الحفاظ على السيادة الوطنية وضمان أن يبقى أمن المنطقة بيد أهلها وليس القوى الخارجية.
إن ما قاله الرئيس الإرتيري يجب أن يكون نموذجاً لما يجب أن تقوله الحكومة اليمنية: أن حماية البحر الأحمر مسؤولية الدول الساحلية، وأن أي ترتيبات أمنية يجب أن تحترم السيادة الوطنية، وأن المنطقة قادرة على حماية نفسها دون الحاجة لقواعد أجنبية. هذا الموقف ليس مجرد موقف سياسي، بل هو استراتيجية بقاء للمنطقة كلها.
إن الحكمة الإرتيرية في التعامل مع ملف الجزر اليمنية كقضية إقليمية مشتركة تقدم للحكومة اليمنية فرصة ذهبية لاستعادة زمام المبادرة. بدلاً من الاكتفاء بالصمت أو تبرير الأمر الواقع، يمكن لصنعاء أن تقود مشروعاً إقليمياً للدفاع عن السيادة الجماعية، مشروعاً يضمن أن يبقى البحر الأحمر في أيدي أهله، وأن تعود الجزر اليمنية إلى حضن وطنها الأم قبل أن يصبح الأمر الواقع حقيقة لا يمكن تغييرها.