في رحلة جهنمية عبر قفار اليمن، اكتشف شاب من "عليّة القوم" درساً لا يُنسى: أن الكرامة الحقيقية لا تُقاس بالمنصب أو الثروة، بل بالأفعال والأخلاق. بين جبال الشُّريْجَة وطرق كَرِش، وفي لحظات الخوف والعطش والحاجة، تبدّلت المعايير تماماً: أولئك الذين يُطلق عليهم "مهمّشون" قدموا له درساً في النبل، بينما أولئك الذين يدّعون المكانة أظهروا وجههم الحقيقي المُشين.
عندما انقلبت المعايير: من يعلّم مَن؟
بدأت القصة برحلة شاب يمني من طبقة متعلمة، يسير على قدميه من منطقة الشُّريْجَة باتجاه كَرِش، حاملاً معه كل ما يملك: ساعة وحيدة في معصم يده، وحلماً بمنحة دراسية إلى ألمانيا. لكن القدر أعدّ له لقاءين محورياً سيغيران نظرته للعالم إلى الأبد.
أولاً، واجه رجلين مسلحين في مكان منعزل وموحش، انتزعا منه ساعته الوحيدة بالقوة، ولعناه حين لم يجدا معه نقوداً. هذا اللقاء الأول كشف له وجه العنف الذي لا يعرف الرحمة، حيث القوة هي المعيار الوحيد، والضعيف فريسة سهلة.
ثم، تحت ظلال شجرة وحيدة في الصحراء، شاهد مشهداً مختلفاً تماماً: قبيلة من المهمّشين، حوالي ثلاثين فرداً، يحملون صُرَرهم وكأنهم نقلوا مخيمهم بالكامل. لحظة اللقاء هذه ستصبح نقطة تحوّل حاسمة في فهمه لمعنى الإنسانية الحقيقية.
الدرس الأول: الكرم الحقيقي لا يحتاج ثروة
عندما سأل المهمّشون الشاب عن وجهته، وأخبرهم أنه متجه إلى عدن، بدا الاستغراب واضحاً على وجوههم. كيف لشخص من "عليّة القوم" أن يمشي مثلهم في تلك القفار؟ لكن استغرابهم سرعان ما تحوّل إلى ترحيب حقيقي حين رأوه يسايرهم ويتكلم معهم بتلقائية.
جاءت اللحظة الحاسمة عندما توقفوا للراحة وتناول الطعام. عزموه على المشاركة، وكان في ظنهم أنه سيرفض، أن كبرياءه وطبقته ستمنعه من الأكل من طعامهم البسيط والشرب من مائهم. لكن حين أكل معهم وشرب، حدثت المعجزة: فرحوا واعتبروه واحداً منهم فعلاً.
هنا تجلّت الحقيقة الأولى: الكرم الحقيقي لا يأتي من وفرة المال، بل من سعة القلب. هؤلاء المهمّشون، الذين لا يملكون إلا القليل، قدموا أغلى ما لديهم للغريب دون تردد. بل إن كبيرهم مازحه قائلاً إنه صار واحداً منهم، وعليه أن يختار إحدى الفتيات الثلاث للزواج، وضحك الجميع - بما في ذلك الفتيات - في مشهد يفيض بالدفء الإنساني الحقيقي.
الدرس الثاني: فلسفة الحياة بلا عجلة مصطنعة
أثناء الرحلة معهم، اكتشف الشاب فلسفة حياة مختلفة تماماً عما اعتاد عليه. المهمّشون لا يستعجلون في السير، يتوقفون كلما تعب أطفالهم أو كبار السن فيهم. البطء ليس كسلاً عندهم، بل فلسفة حياة عميقة: "ليس هناك مكان يخصهم ويشعرون بأنه حقهم وملكهم حتى يستعجلوا في الوصول إليه".
هذا الإدراك المؤلم والعميق كشف للشاب حقيقة قاسية: أولئك الذين يعيشون على هامش المجتمع قد وجدوا السلام في بطئهم، لأنهم لا يملكون وهم الوصول إلى مكان آمن. بينما الآخرون يركضون نحو أهداف قد تكون زائفة أو منطوية على خداع.
لكن هذا البطء لم يمنعهم من تحويل كل توقف إلى فرصة للمرح واللهو. في إحدى المرات، توقفوا في وادٍ تكتسي ضفتاه بالشجر، وأخذوا وقتاً أطول من المعتاد. حين سأل الشاب عمّا ينتظرون، أشاروا إلى الأشجار وضحكوا. لاحقاً، فهم أنهم كانوا ينتظرون فتى وفتاة خرجا من بين الشجر، ورغم التأخير لم يزعل أحد، "لأن البطء فضيلة عند المهمّشين".
الدرس الثالث: التضامن والعمل الجماعي دون مقابل
جاء الدرس الأعمق عندما واجهوا شاحنة متعثرة في الطريق. سائق الشاحنة، حين أبصر هذا العدد الكبير من المهمّشين، فرح واستبشر خيراً، وطلب منهم دفع الشاحنة مقابل توصيلهم إلى وجهتهم. هنا ظهر التضامن الحقيقي: الرجال والفتيان الأقوياء دفعوا الشاحنة "بكل عزيمة وإصرار"، بينما شجعتهم النساء والفتيات ونفخن فيهم لرفع معنوياتهم.
عندما نهضت الشاحنة وتحركت، انفجر الفرح: النساء يصفقن ويزغردن، والجميع يتسلقون الشاحنة "كقرود تتسلق شجرة ضخمة"، ثم "يغنون ويرقصون فوق الشاحنة، ويقرعون الطبول لكأنهم في عرس". هذا المشهد جسّد روح الجماعة الحقيقية: عمل جماعي، فرح مشترك، احتفال بإنجاز حققوه معاً.
لكن سائق الشاحنة كشف عن تحيزه الطبقي حين استغرب من وجود الشاب بينهم: "وانت ما دخلك بينهم؟ وليش تمشي مع الأخدام؟!" وطلب منه الركوب في المقدمة. رفض الشاب وركب مع رفاقه الجدد في الخلف، في قرار يعكس اختياراً واضحاً للقيم الحقيقية على الامتيازات الطبقية المزعومة.
انكشاف النقيض: عندما ظهر 'النبل المزعوم'
بعد وصوله إلى مخبز أخيه سيف في المنصورة، وحصوله على شهادة النقل من كلية بلقيس، وعودته إلى صنعاء محملاً بالأمل والملابس الجديدة استعداداً للسفر، جاءت الصدمة الكبرى. اسمه لم يكن في كشف المبتعثين إلى ألمانيا.
هنا انكشف الوجه الآخر للمجتمع: موظف الوزارة ادّعى أن السبب هو التأخير في تقديم الشهادة، لكن الحقيقة كانت أبشع، كما كشفها "الطالب الرداعي": "تأخرت في تقديم الرّشوة". هذه الجملة البسيطة فضحت نظاماً كاملاً مبنياً على الفساد، حيث الجدارة لا تعني شيئاً، والرشوة هي المفتاح الوحيد للفرص.
التناقض كان صارخاً ومؤلماً: المهمّشون الذين لا يملكون شيئاً قدموا كل ما لديهم دون مقابل، بينما أولئك الذين يدّعون المسؤولية والمكانة سرقوا أحلام الشباب مقابل رشاوى. الأولون يعطون من قلة، والآخرون يأخذون في وفرة.
خاتمة: الكرامة بين الفعل والادعاء
في نهاية هذه الرحلة الجهنمية التي تحولت إلى رحلة استكشاف للذات والمجتمع، يمكننا استخلاص درس جوهري: الكرامة الحقيقية لا تُقاس بالمنصب أو الثروة أو النسب، بل بالأفعال والأخلاق والمعاملة الإنسانية.
المهمّشون في هذه القصة، رغم كل ما يواجهونه من تهميش مجتمعي، كانوا المعلمين الحقيقيين للقيم الإنسانية النبيلة: الكرم دون انتظار مقابل، التضامن في وجه الصعاب، الفرح في أبسط الإنجازات، والأهم من ذلك كله - القدرة على رؤية الإنسان في الآخر بغض النظر عن طبقته أو خلفيته.
في المقابل، كشفت التجربة عن فساد عميق في مؤسسات الدولة، حيث يُحرم المستحقون من الفرص لصالح الفاسدين. هذا التناقض يطرح سؤالاً مؤلماً: أي نوع من النبل نختار في حياتنا؟ نبل الفعل والأخلاق، أم نبل الادعاء والمظاهر؟ الجواب قد يحدد ليس فقط مصيرنا الشخصي، بل مصير مجتمعنا كله.