في أروقة القصر الملكي السعودي، تدور محادثات لم تعد تشبه تلك التي كانت في عام 2015. آنذاك، كان الحديث يدور حول نصر سريع وحاسم في اليمن. اليوم، وفقاً لتحليل أمريكي نادر من نيويورك تايمز، تكشف المناقشات عن تحول جذري في عقلية صنع القرار السعودي - تحول من استراتيجية "الحسم العسكري" إلى فلسفة "منع الأضرار" والبحث عن الاستقرار الإقليمي.
داخل غرف القرار: كيف تغيرت حسابات الرياض منذ 2015
يكشف التحليل الأمريكي عن فجوة صارخة بين التوقعات الأولية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان والواقع المعقد الذي واجهته المملكة في اليمن. في البداية، اعتقدت القيادة السعودية أن بلادها قادرة على تحقيق نصر سريع على الحوثيين وفرض سياساتها الخاصة في اليمن، لكن هذه التوقعات اصطدمت بصمود أطول من المتوقع وتعقيدات جيوسياسية لم تكن محسوبة في المعادلات الأولية.
هذا التحول في الإدراك لم يكن مجرد تعديل تكتيكي، بل إعادة تقييم جوهرية لطبيعة التهديدات وأولويات الأمن القومي السعودي. القيادة السعودية وجدت نفسها أمام حقيقة أن الحروب الإقليمية المطولة تستنزف الموارد وتعرقل مشاريع التحديث الداخلية، خاصة رؤية 2030 التي تتطلب استقراراً أمنياً واقتصادياً مستداماً.
الضغوط الاقتصادية كانت عاملاً حاسماً في هذا التحول. تكاليف الحرب المالية، إلى جانب تحديات تنويع الاقتصاد السعودي بعيداً عن النفط، خلقت إطاراً جديداً لتقييم المخاطر والفرص. بن سلمان، الذي راهن على نجاح سريع في اليمن، وجد نفسه مضطراً لإعادة تعريف النجاح من "هزيمة الحوثيين" إلى "إدارة التهديد وتقليل تأثيره على المشاريع السعودية الكبرى".
استراتيجية 'منع الأضرار': الهدف الجديد وراء الكواليس
التحليل الأمريكي يضع إصبعه على التحول الجوهري في الفكر الاستراتيجي السعودي. بدلاً من محاولة حسم حربه مع الحوثيين، أصبح هدف بن سلمان الأساسي هو منع حدوث تأثير سلبي لها على المملكة. هذا التحول يعكس نضجاً في فهم طبيعة الصراعات الحديثة وحدود القوة العسكرية في تحقيق الأهداف السياسية المعقدة.
استراتيجية "البيئة الأمنية المستقرة" التي تركز عليها السعودية الآن ليست علامة ضعف، بل خيار استراتيجي مدروس. هذه السياسة تهدف إلى خلق منطقة عازلة من الاستقرار تسمح للمملكة بالتركيز على مشاريعها التنموية الطموحة. رؤية 2030 تتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا والسياحة، وهذه المشاريع تحتاج إلى بيئة آمنة ومستقرة لتزدهر.
التوازن الدقيق بين الضغط الأمريكي والمصالح السعودية المحلية يلعب دوراً محورياً في هذا التحول. الإدارة الأمريكية، التي تسعى لتقليل تورطها في الصراعات الإقليمية، وجدت في الاستراتيجية السعودية الجديدة فرصة لتحقيق الاستقرار دون تكلفة عسكرية أمريكية مباشرة.
فكرة تجنب الصدامات والحروب لم تعد مجرد تكتيك مؤقت، بل فلسفة حاكمة للسياسة الخارجية السعودية. أي تصعيد قادم من اليمن يُنظر إليه الآن من خلال عدسة تأثيره على مشروع المملكة التحديثي، وليس فقط من خلال اعتبارات الأمن التقليدية أو الهيبة الإقليمية.
المؤشرات الملموسة: من الرفض الحوثي إلى عودة التجارة البحرية
الأحداث الأخيرة تقدم دلائل ملموسة على نجاح الاستراتيجية السعودية الجديدة. رفض مليشيا الحوثي لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2801، الذي جدد نظام العقوبات على اليمن، يكشف عن ثقة حوثية متزايدة في موقفهم، لكنه في الوقت ذاته يعكس تحولاً في طبيعة المواجهة من العسكرية إلى الدبلوماسية والاقتصادية.
موقف روسيا والصين، اللتين امتنعتا عن التصويت على القرار، يشير إلى تحولات أعمق في المعادلات الدولية. موسكو اعتبرت القرار "منحازاً وغير متوازن"، بينما أبدت بكين مخاوف من تأثيره على حرية الملاحة البحرية. هذا الموقف الروسي-الصيني لا يُقرأ فقط كدعم للحوثيين، بل كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية.
البيانات الاقتصادية المتعلقة بتحسن حركة الملاحة في قناة السويس تقدم أقوى الأدلة على فعالية الاستراتيجية الجديدة. تقرير موقع "ماري تايم إكسكيوتيف" يشير إلى تحسن ملحوظ في حركة الملاحة بعد فترة تراجع في هجمات الحوثيين على السفن التجارية. سفن الحاويات بدأت تدريجياً تستأنف مرورها عبر البحر الأحمر إلى قناة السويس، خصوصاً بعد هدنة غزة وتصويت مجلس الأمن على تجديد العقوبات.
عودة الهدوء في البحر الأحمر خلقت واقعاً جديداً دفع بعض شركات الملاحة إلى التفكير في العودة لاستخدام باب المندب، وهو مؤشر اقتصادي قوي على أن استراتيجية "منع الأضرار" تؤتي ثمارها. هذا التحسن في أمان الملاحة لا يخدم فقط الاقتصاد العالمي، بل يدعم الهدف السعودي في تقليل التوترات الإقليمية التي قد تعرقل مشاريعها التنموية.
ما وراء العناوين: قراءة في مستقبل المنطقة
التحول في الاستراتيجية السعودية يحمل دلالات أوسع على مستقبل ديناميكيات الصراع في الشرق الأوسط. عندما تتبنى قوة إقليمية كبيرة مثل السعودية فلسفة "إدارة الصراعات" بدلاً من "حسمها"، فإن هذا يؤثر على سلوك جميع الأطراف الأخرى في المنطقة. الحوثيون، الذين تأكدوا من عدم وجود نية سعودية لحسم عسكري، قد يصبحون أكثر مرونة في المفاوضات المستقبلية.
فرص نجاح الاستراتيجية السعودية الجديدة تبدو مرتفعة في ظل المتغيرات الدولية الحالية. الولايات المتحدة تسعى لتقليل تورطها في الشرق الأوسط، والصين تركز على مبادرة الحزام والطريق التي تتطلب استقراراً في ممرات الملاحة، وأوروبا تحتاج لأمان الطرق التجارية. كل هذه القوى الدولية لديها مصلحة في نجاح النموذج السعودي الجديد.
التطورات المستقبلية في المنطقة ستعتمد بشكل كبير على قدرة السعودية على تحويل هذا التحول الاستراتيجي إلى نتائج ملموسة على الأرض. النجاح في تحقيق رؤية 2030، وإنجاز مشاريع مثل نيوم والقدية، سيعطي مصداقية أكبر لفلسفة "الاستقرار أولاً". فشل هذه المشاريع، من ناحية أخرى، قد يدفع للعودة إلى نهج أكثر تشدداً.
تحليل نيويورك تايمز لا يقدم مجرد نظرة على تحول سياسة واحدة، بل يكشف عن نموذج جديد قد يحدد شكل العلاقات الإقليمية لعقود قادمة. في عالم معقد ومترابط، قد تكون الحكمة في إدارة الصراعات وليس حسمها، وفي بناء الاستقرار الاقتصادي بدلاً من السعي وراء الانتصارات العسكرية. الكواليس السعودية تحكي قصة تحول عميق من عقلية الحرب إلى عقلية البناء، ومن منطق القوة إلى منطق الاستثمار في المستقبل.