في مواجهة صادمة مع الواقع، اكتشف بلال مطهر أن الأرقام على شاشة جهاز قياس السكر لم تكن مجرد أرقام عادية، بل كانت إعلان حرب صامتة ضد جسده الشاب. السكر التراكمي 9.9 - رقم يحمل في طياته قصة جيل يمني كامل يواجه وباءً صامتاً يتسلل إلى أوردته دون إنذار مسبق. لكن ما حدث بعدها لم يكن استسلاماً، بل تحولاً جذرياً حول أزمة صحية إلى نموذج ملهم للسيطرة على المرض بتكلفة لا تتجاوز ألف ريال شهرياً.
اللحظة التي غيرت كل شيء: اكتشاف بلال للسكري
لم تكن الإشارات واضحة في البداية. بلال مطهر، الرجل الثلاثيني المنشغل بالعمل، لاحظ تغيرات طفيفة تبدو عادية لأي شخص في عمره: نوبات غضب غير مبررة، تبول مفرط، وعطش لا يرتوي مهما شرب من الماء. كانت هذه الأعراض تتراكم ببطء، كأجراس إنذار خافتة يتجاهلها في زحمة الحياة اليومية.
عندما قرر أخيراً زيارة الطبيب، لم يكن يتوقع أن يواجه رقماً صادماً: مستوى السكر التراكمي 9.9. هذا الرقم، الذي يعتبر مرتفعاً بشكل خطير، كان بمثابة جرس إنذار أخير. في تلك اللحظة، أدرك بلال أنه أمام خيارين: إما أن يستسلم للمرض ويصبح عبئاً على نظام صحي متهالك، أو يأخذ زمام الأمور بيديه ويحول التحدي إلى فرصة.
الصدمة الأولى تبعتها صدمة أخرى عندما حسب تكلفة العلاج التقليدي. الأدوية المستوردة، المتابعة المستمرة، الفحوصات الدورية - كلها تشكل عبئاً مالياً يفوق قدرة معظم الشباب اليمني في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة. هنا بدأت رحلة البحث عن البديل.
المعركة الأولى: رحلة التجريب والخطأ في العلاج
قرار بلال الأول كان جذرياً: التوقف التام عن الحلويات. ليس تقليلاً، بل منعاً كاملاً. ثم جاءت الخطوة الأصعب - إعادة تصميم نظامه الغذائي بالكامل. استبعد الأرز، رفيق المائدة اليمنية الدائم، ومنع الدقيق الأبيض والخبز التقليدي من بيته. كان يعيش تجربة اجتماعية صعبة، فكيف يمكن لرجل يمني أن يتناول وجبة بدون أرز أو خبز؟
النتائج الأولى كانت مشجعة. مع الالتزام الصارم، بدأت مستويات السكر في الانخفاض، وشعر بلال بتحسن تدريجي في طاقته ومزاجه. لأول مرة منذ التشخيص، شعر أن بإمكانه السيطرة على المرض بدلاً من أن يسيطر المرض عليه. كان هذا التحسن بمثابة الوقود الذي يحتاجه لمواصلة الطريق.
لكن الطبيعة البشرية عادت لتظهر نفسها. في لحظة ضعف، عاد بلال لتناول بعض المواد المحظورة. النتيجة كانت قاسية ومباشرة: ارتفع السكر التراكمي مجدداً إلى 9.9. هذه التجربة، رغم قسوتها، علمته درساً مهماً: لا توجد "استراحة قصيرة" مع مرض السكري. إما الالتزام الكامل أو العودة للمربع الأول.
هذه الانتكاسة لم تكن فشلاً، بل كانت درساً حيوياً في فهم طبيعة المرض. تعلم بلال أن السكري ليس عدواً يُهزم مرة واحدة، بل شريك صعب المراس يتطلب تفاوضاً يومياً واتفاقات واضحة لا تقبل المساومة.
الصيغة السحرية: كيف طوّر بلال نظامه الغذائي منخفض التكلفة
بعد تجربة الانتكاسة المؤلمة، قرر بلال تطوير نظام غذائي أكثر استدامة واقتصادية. الحل جاء من التراث اليمني نفسه: البر والذرة. هذان المكونان، المتوفران بكثرة وبأسعار معقولة في الأسواق اليمنية، أصبحا أساس نظامه الغذائي الجديد.
البر، بمؤشره الجلايسيمي المنخفض، يوفر الكربوهيدرات المعقدة التي يحتاجها الجسم دون التسبب في ارتفاع سريع لمستوى السكر. الذرة، بغناها بالألياف والعناصر الغذائية، تضمن الشبع لفترات طويلة وتساعد في تنظيم الهضم. هذا التحول من الدقيق الأبيض المكرر إلى الحبوب الكاملة لم يكن مجرد تغيير غذائي، بل ثورة حقيقية في نمط الحياة.
حساب التكلفة كان مفاجئاً إيجابياً. كيس البر الذي يكفي لشهر كامل لا يكلف أكثر من 400 ريال، وكيس الذرة حوالي 300 ريال. إضافة الخضروات الورقية والبروتينات المحلية البسيطة، لا تتجاوز التكلفة الشهرية الإجمالية 1000 ريال - أي أقل من تكلفة علبة أنسولين مستوردة واحدة.
النصائح العملية التي طورها بلال شملت تحضير وجبات كبيرة وتقسيمها على مدار الأسبوع، استخدام البهارات اليمنية التقليدية لإضافة النكهة دون السكر، وتناول وجبات صغيرة متعددة بدلاً من ثلاث وجبات كبيرة. هذا النظام لم يكن مجرد حمية، بل أسلوب حياة مستدام يناسب البيئة اليمنية والإمكانات المحدودة.
الواقع خلف القصة: السكري كوباء صامت بين شباب اليمن
قصة بلال ليست استثناءً، بل جزء من كارثة صحية أوسع تجتاح اليمن. الأرقام مذهلة ومخيفة: وفقاً للدكتور دارس الوصابي، استشاري أمراض الغدد الصماء، يُقدر عدد المصابين بالسكري في اليمن بحوالي 3 ملايين شخص، أي ما يعادل 8% من إجمالي السكان. والأكثر إثارة للقلق أن 95% من هذه الحالات من النوع الثاني المرتبط بنمط الحياة.
الأسباب وراء هذا الانتشار المرعب متعددة ومترابطة. الجلوس المطول، خاصة أثناء مضغ القات، أصبح جزءاً من الثقافة اليومية. المشروبات الغازية ومشروبات الطاقة عالية السكر تغزو الأسواق بأسعار رخيصة. الاعتماد المفرط على النشويات المكررة والوجبات السريعة المستوردة حل محل النظام الغذائي التقليدي الصحي.
وسائل التواصل الاجتماعي فاقمت المشكلة. الشباب يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات دون حركة، مع تناول وجبات خفيفة عالية السكر. هذا النمط، المدعوم بالضغوط النفسية والاقتصادية، خلق بيئة مثالية لتفشي مرض السكري بين فئة عمرية كانت تعتبر محمية نسبياً من هذا المرض.
المقارنة مع الاتجاهات العالمية تظهر أن اليمن ليس وحيداً في هذه المعركة. منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن معدلات السكري تتزايد بسرعة أكبر في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل. لكن ما يميز الحالة اليمنية هو تفاقم المشكلة بسبب الصراع والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تحد من إمكانية الحصول على العلاج المناسب.
الطريق للأمام: دروس قابلة للتطبيق من تجربة بلال
تجربة بلال تقدم خريطة طريق عملية لمواجهة السكري في البيئة اليمنية. الدرس الأول والأهم: المعرفة قوة. فهم طبيعة المرض وكيفية تفاعل الجسم مع الأطعمة المختلفة يمكّن المريض من اتخاذ قرارات مدروسة. ليس عليك أن تصبح خبيراً في التغذية، لكن فهم الفرق بين الكربوهيدرات البسيطة والمعقدة يمكن أن ينقذ حياتك.
الدليل المبسط للبدائل الغذائية المحلية يشمل: استبدال الأرز الأبيض بالبر أو الشعير، استخدام دقيق الذرة بدلاً من الدقيق الأبيض، تناول التمر باعتدال بدلاً من الحلويات المصنعة، والاعتماد على الخضروات الورقية المحلية مثل الجرجير والفجل الأخضر. هذه البدائل متوفرة ومألوفة ولا تتطلب تغييراً جذرياً في عادات الطبخ.
التوازن بين الحمية والمتابعة الطبية أمر حيوي. بلال يؤكد أن النجاح في السيطرة على السكري جاء من الجمع بين الانضباط الغذائي والعلاج الطبي المناسب. "الحمية الأهم في التعامل مع المرض، لكنها ليست بديلاً عن العلاج الطبي عند الحاجة،" يقول بلال.
رسالة الأمل التي يحملها بلال واضحة: "إذا تجنبت الأشياء الممنوعة، يمشي معك مرض السكري بكل هدوء." هذه الجملة تلخص فلسفة التعايش الذكي مع المرض. السكري ليس حكماً بالإعدام، بل تحدٍ يمكن ترويضه بالمعرفة والإرادة والانضباط.
دعوة للعمل تبدأ بخطوات بسيطة: قياس السكر دورياً لمن تجاوزوا الثلاثين، تقليل استهلاك المشروبات الغازية تدريجياً، المشي لثلاثين دقيقة يومياً، وتعلم قراءة ملصقات المحتوى الغذائي. هذه الخطوات، البسيطة ظاهرياً، يمكنها أن تمنع تحول حياة شاب في مقتبل العمر إلى معركة يومية مع المرض.
في عالم يتسارع فيه انتشار السكري بين الشباب، تقف تجربة بلال مطهر كمنارة أمل وسط ظلام الإحصائيات المخيفة. لم تكن رحلته مجرد قصة شخصية للتغلب على المرض، بل برهان حي على أن الحلول المبتكرة والإرادة القوية يمكنهما تحويل التحدي الصحي إلى فرصة لحياة أفضل وأكثر صحة. الدرس الأهم من هذه التجربة أن مواجهة السكري في اليمن لا تتطلب علاجات باهظة الثمن أو تقنيات معقدة، بل تحتاج إلى العودة للحكمة التقليدية في التغذية، مدعومة بالمعرفة العلمية الحديثة والالتزام الشخصي الراسخ. كما يقول بلال، "السكري يصبح حملاً وديعاً إذا واجهناه بوعي وإرادة وانضباط" - وهذا بالضبط ما يحتاجه جيل كامل من الشباب اليمني لحماية مستقبلهم الصحي.