في تناقض صارخ مع التصريحات المعلنة حول السلام، تواصل مليشيا الحوثي تحشيداتها العسكرية عبر سبع محافظات يمنية، بينما تشتد أزمة اقتصادية خانقة تلقي بظلالها على مصير ملايين اليمنيين. هذا التناقض الواضح بين الخطاب السياسي والممارسة الميدانية يكشف عن حقيقة مخفية: كيف تحولت الأزمة الاقتصادية الداخلية للجماعة إلى دافع أساسي وراء التصعيد العسكري، في نمط متكرر يعكس عجزاً هيكلياً في إدارة الموارد وأزمة مالية عميقة تهدد بتفكيك البنية التنظيمية للمليشيا من الداخل.
الأدلة المخفية: كيف تكشف الأرقام الاقتصادية حقيقة التحشيدات
تشير البيانات الميدانية إلى توقيت مريب للتحشيدات العسكرية التي شملت محافظات صنعاء وصعدة والجوف وحجة والبيضاء والحديدة والمحويت، والتي تزامنت مع تفاقم أزمة الرواتب وانقطاع المرتبات عن قوات الجيش الوطني منذ نحو نصف عام. هذا التزامن ليس مصادفة، بل يعكس استراتيجية مدروسة لاستخدام التحشيد كآلية لإعادة توزيع الموارد المالية المحدودة.
تحليل مصادر التمويل يكشف عن دافع اقتصادي خفي وراء هذه التحشيدات. فعمليات "الاستدعاء الإجباري للمقاتلين" و"جمع التبرعات تحت مسمى الدعم الحربي" تشير إلى محاولة منهجية لتحويل العبء المالي للأزمة الاقتصادية من المؤسسات المركزية إلى المجتمعات المحلية، مما يفسر التركيز على سبع محافظات تحديداً دون غيرها.
الجغرافيا الاقتصادية للتحشيدات تكشف نمطاً واضحاً: المحافظات المستهدفة تضم أهم المناطق الزراعية والتجارية في مناطق سيطرة المليشيا، مما يعني أن التحشيدات تهدف بالأساس إلى ضمان السيطرة على مصادر الإيرادات المحلية أكثر من كونها استعداداً لمواجهة خارجية حقيقية.
تشريح استراتيجية الضغط: من الأزمة الداخلية إلى التهديد الخارجي
النمط المتكرر للتصعيد يفضح آلية عمل المليشيا في استخدام التحشيدات كورقة ضغط سياسية. فكلما تعثرت المفاوضات مع السعودية أو واجهت ضغوطاً داخلية متزايدة، تلجأ الجماعة إلى هذا النمط من التصعيد. هذا السلوك يشير إلى أن التحشيدات ليست استجابة لتهديدات خارجية حقيقية، بل آلية للتعامل مع أزمات داخلية عبر خلق توترات خارجية.
الكتمان على مصير القيادات الرفيعة منذ أشهر يضيف بُعداً آخر للأزمة الداخلية. غياب هذه القيادات، سواء كان بسبب خلافات داخلية أو استهداف خارجي، يخلق فراغاً في القيادة يتطلب إظهار القوة والحشد العسكري لملء هذا الفراغ وتعزيز الشرعية الداخلية للقيادات المتبقية.
اقتصاديات الحرب تلعب دوراً محورياً في هذه المعادلة. التصعيد العسكري يصبح حلاً مؤقتاً للأزمات المالية الداخلية من خلال عدة آليات: إعادة توزيع الموارد عبر الاقتصاد الحربي، تبرير فرض ضرائب وإتاوات إضافية على المواطنين باسم "المجهود الحربي"، وتحويل الانتباه من الفشل الاقتصادي إلى "التهديدات الخارجية".
جمود الوساطة العُمانية: عندما تصطدم المطالب بالواقع الاقتصادي
تشريح "الاستحقاقات" التي تطالب بها المليشيا يكشف عن ضغوط اقتصادية حقيقية تواجهها الجماعة. المطالبة بصرف رواتب الموظفين من عائدات النفط والغاز، وفتح مطار صنعاء، ومنح الجماعة حصة مباشرة من الموارد، كلها مؤشرات على أزمة سيولة حادة وعجز في تمويل العمليات الأساسية للدولة في مناطق سيطرتها.
موازين القوى المتغيرة تظهر كيف تؤثر الأزمة الداخلية على قوة التفاوض. عندما تواجه المليشيا ضائقة مالية، تصبح مطالبها أكثر إلحاحاً وأقل مرونة، مما يزيد من صعوبة التوصل لحلول وسط. هذا يفسر الجمود في مسار الوساطة منذ منتصف 2024، حيث تحولت المفاوضات من محاولة التوصل لحل سياسي إلى صراع حول توزيع الموارد الاقتصادية.
دور عُمان والتحديات تبرز في محاولة الوساطة في ظل تصلب المواقف المدفوع اقتصادياً. الوسطاء العُمانيون يواجهون تحدياً مضاعفاً: ليس فقط جسر الفجوة بين المواقف السياسية، بل أيضاً إيجاد صيغة لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تغذي التصعيد العسكري. بدون معالجة الجذور الاقتصادية للأزمة، تبقى أي تسوية سياسية هشة ومؤقتة.
دائرة الأزمة المفرغة: كيف تغذي التحشيدات المشكلة التي تحاول حلها
التكلفة الاقتصادية للتحشيدات تخلق مفارقة قاتلة للمليشيا. كل حملة تعبئة عسكرية تتطلب موارد مالية ضخمة للأسلحة والذخيرة والإعاشة والرواتب، مما يزيد من الأعباء المالية بدلاً من تخفيفها. هذا يعني أن التحشيدات، التي تهدف نظرياً لحل الأزمة الاقتصادية عبر الحصول على تنازلات سياسية، تؤدي فعلياً إلى تعميق هذه الأزمة.
تأثير التصعيد على الاستثمار والتنمية في المناطق الخاضعة لسيطرة المليشيا يخلق دائرة مفرغة من التدهور الاقتصادي. كلما زاد التصعيد العسكري، قل الاستثمار المحلي والدولي، وانخفضت الإيرادات الضريبية، وتراجعت الخدمات الأساسية، مما يزيد من الاستياء الشعبي ويدفع المليشيا لمزيد من التصعيد لصرف الانتباه عن فشلها الاقتصادي.
السيناريوهات المحتملة للخروج من هذه الدائرة المفرغة تتطلب فهماً عميقاً للعلاقة بين الاقتصاد والأمن. الخيار الأول يتمثل في تقديم حوافز اقتصادية مشروطة بوقف التصعيد العسكري، لكسر رابط الاعتماد على الاقتصاد الحربي. الخيار الثاني يركز على تعزيز الاقتصاد المحلي في المناطق المحررة كنموذج بديل يجذب السكان والموارد بعيداً عن مناطق سيطرة المليشيا.
الحقيقة وراء الأرقام: ماذا تكشف البيانات عن مستقبل اليمن
استخلاص الدروس من هذا التحليل يقودنا إلى فهم جديد لطبيعة الصراع في اليمن. الأزمة ليست مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل أزمة اقتصادية عميقة تتجلى في أشكال مختلفة. فهم هذه العلاقة المعقدة بين الاقتصاد والأمن ضروري لأي محاولة جادة لحل الأزمة اليمنية.
التوصيات العملية تتركز على ضرورة ربط أي مفاوضات سياسية مستقبلية بخطة شاملة للتعافي الاقتصادي تعالج جذور الأزمة المالية التي تغذي التصعيد العسكري. هذا يشمل إنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار، وتطوير آليات لضمان شفافية توزيع عائدات النفط والغاز، وبناء مؤسسات اقتصادية مستقلة تخدم جميع اليمنيين بدلاً من فئة واحدة.
نظرة للمستقبل تؤكد أن نجاح أي تسوية سياسية في اليمن مرهون بقدرتها على معالجة الواقع الاقتصادي الجديد الذي خلقته سنوات الحرب. بدون بناء اقتصاد قادر على توفير فرص عمل وخدمات أساسية للمواطنين، ستبقى إغراءات العودة للصراع المسلح قوية، وستستمر دائرة العنف والفقر في التكرار. الخروج من هذه الدائرة يتطلب رؤية جديدة تضع التنمية الاقتصادية الشاملة في مركز أي حل سياسي مستدام.
التحليل العميق لتحشيدات المليشيا الحوثية يكشف عن حقيقة مؤلمة: الأزمة الاقتصادية الداخلية أصبحت المحرك الأساسي للتصعيد العسكري في اليمن. هذا الفهم الجديد يفتح الباب أمام مقاربات مبتكرة لحل الأزمة تركز على معالجة الجذور الاقتصادية للصراع بدلاً من الاكتفاء بالحلول الأمنية قصيرة المدى. نجاح اليمن في كسر دائرة العنف والفقر يتطلب شجاعة سياسية لمواجهة هذه الحقائق الصعبة وبناء نموذج تنموي جديد يخدم طموحات الشعب اليمني في الاستقرار والازدهار.