في لحظة حاسمة يترقب فيها اليمنيون والمستثمرون الدوليون نتائج التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة، تتضح ملامح مشهد جديد قد يعيد تشكيل المستقبل الاقتصادي للبلاد. فبينما قد يبدو غياب ثلاثة أعضاء من المجلس الرئاسي في الاجتماع الأخير بالرياض مؤشراً على تحديات سياسية، تكشف القراءة العميقة للقرارات المتخذة والدعم الدولي المتنامي عن واقع مختلف تماماً - واقع يحمل في طياته إمكانات اقتصادية واعدة قد تفوق التوقعات.
السيناريو الأساسي: كيف تعزز الشرعية الدولية الثقة الاقتصادية
يمثل قرار مجلس الأمن بتجديد ولاية فريق الخبراء التابع للجنة العقوبات بشأن اليمن نقطة تحول استراتيجية في المشهد الاقتصادي اليمني. فهذا القرار، الذي رحب به مجلس القيادة الرئاسي، لا يقتصر أثره على الجانب السياسي فحسب، بل يمتد ليشكل أساساً صلباً لتعزيز الثقة الاقتصادية الدولية في اليمن.
تُظهر دراسات صندوق النقد الدولي أن الدول التي تحظى بمستويات عالية من الشرعية الدولية والاستقرار السياسي تجذب استثمارات أجنبية مباشرة تفوق نظيراتها بنسب تصل إلى 40%. وفي السياق اليمني، يُترجم تقرير فريق الخبراء الدوليين الذي وثق الطبيعة الإرهابية للميليشيات الحوثية وارتباطاتها بإيران إلى رسالة واضحة للمجتمع الدولي حول شرعية الحكومة اليمنية ومؤسساتها.
هذا الاعتراف الدولي المتنامي يخلق بيئة استثمارية أكثر جاذبية، حيث تصبح المخاطر السياسية أكثر وضوحاً وقابلية للتنبؤ. الشركات العالمية التي كانت تتردد في دخول السوق اليمني بسبب الغموض السياسي، تجد الآن إطاراً واضحاً يمكنها من خلاله تقييم الفرص والمخاطر بدقة أكبر.
الركيزة الاقتصادية: قرار الرقم 11 والمصفوفة التنفيذية كخريطة طريق
يشكل قرار مجلس القيادة رقم 11 لعام 2025 المتعلق بأولويات الإصلاحات الاقتصادية العمود الفقري للتحول الاقتصادي المنتظر في اليمن. هذه المصفوفة التنفيذية، التي وجه المجلس الحكومة بتسريع تنفيذها، تتضمن إجراءات محددة لإحكام سيطرة الدولة على الإيرادات السيادية ومعالجة الاختلالات المزمنة في المالية العامة.
تركز هذه الإصلاحات على ثلاثة محاور أساسية: توسيع القاعدة الإيرادية، وتحسين كفاءة الإنفاق، وتعزيز الشفافية والمساءلة. وبحسب الإحاطة الموسعة التي قدمها رئيس الوزراء سالم بن بريك، فإن الحكومة تتخذ إجراءات عاجلة لمعالجة اختلالات تحصيل الموارد، مما يعني أن اليمن يتحرك نحو نظام مالي أكثر استقراراً وشفافية.
هذا التوجه نحو الإصلاح المالي الشامل يرسل إشارات إيجابية للمؤسسات المالية الدولية والمانحين، الذين يعتبرون الشفافية والمساءلة شروطاً أساسية لتقديم الدعم. كما أن التزام الحكومة بمعايير الشفافية يفتح المجال أمام إعادة تقييم التصنيف الائتماني للبلاد، مما قد يسهل الحصول على التمويل الدولي بتكلفة أقل.
التأثير المتوقع على القطاعات الحيوية
قطاع الطاقة والنفط، الذي يُعتبر شريان الاقتصاد اليمني، يقف على أعتاب تحول جذري مع تعزز الشرعية الدولية للحكومة. الشركات النفطية العالمية، التي كانت تنتظر استقراراً سياسياً واضحاً لاستئناف عملياتها، تجد الآن مؤشرات إيجابية تشير إلى إمكانية العودة التدريجية. تحسن البيئة السياسية وزيادة الثقة الدولية قد يؤديان إلى عودة استثمارات تقدر بمليارات الدولارات في هذا القطاع الحيوي.
القطاع المصرفي والنقدي يشهد أيضاً تطورات واعدة مع تأكيد مجلس القيادة دعمه الكامل لجهود البنك المركزي في تنفيذ الإصلاحات الشاملة. هذا الدعم، إلى جانب التزام الحكومة بمعايير الشفافية، يمهد الطريق أمام تحسين التصنيف الائتماني وزيادة السيولة في النظام المصرفي. كما أن إحكام السيطرة على الإيرادات السيادية يعني استقراراً أكبر في سعر الصرف، مما يخلق بيئة أكثر ملاءمة للاستثمار والتجارة.
في مجال الخدمات الأساسية، يأتي تأكيد المجلس على ضمان رواتب الموظفين كأولوية قصوى ليُظهر التزاماً جدياً بالاستقرار الاجتماعي. هذا الالتزام، المدعوم بالإصلاحات المالية المخطط لها، يعني أن الحكومة تسير على طريق بناء قاعدة اقتصادية مستدامة تضمن استمرارية الخدمات وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين.
التحديات والمخاطر المحتملة
رغم الإشارات الإيجابية المتعددة، تواجه الإصلاحات الاقتصادية المخطط لها تحديات جدية قد تعرقل تنفيذها. الممارسات الحوثية المدمرة، من احتجاز موظفي الأمم المتحدة إلى تهديد الملاحة الدولية، تخلق مناخاً من عدم اليقين يمكن أن يؤثر سلباً على ثقة المستثمرين. هذه الممارسات، التي وثقها تقرير فريق الخبراء الدوليين، تُظهر أن التحديات الأمنية لا تزال قائمة وتتطلب تعاملاً دقيقاً ومتواصلاً.
التنسيق بين المحافظات المحررة يمثل تحدياً آخر لضمان التطبيق الموحد للإصلاحات. فالنجاح في تنفيذ المصفوفة الإصلاحية يتطلب التزاماً صارماً من جميع الجهات المركزية والمحلية، كما أشار إليه المجلس في توجيهاته. أي تفاوت في التطبيق قد يؤدي إلى اختلالات تضر بالأهداف الإجمالية للإصلاح.
المتابعة الدقيقة لتنفيذ بنود المصفوفة الإصلاحية تتطلب آليات رقابة فعالة وشفافة. بدون هذه الآليات، قد تفقد الإصلاحات زخمها وتصبح مجرد قرارات على الورق. هنا تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الدولية والمانحون في توفير الخبرة التقنية والمتابعة المستمرة لضمان التنفيذ السليم.
خطوات الاستعداد للمواطنين والمستثمرين
للمواطنين اليمنيين، تُفتح نوافذ جديدة من الفرص مع تحسن الخدمات الحكومية المتوقع نتيجة الإصلاحات المالية. تحسين كفاءة الإنفاق وزيادة الشفافية يعنيان خدمات أفضل في التعليم والصحة والبنية التحتية. كما أن استقرار رواتب القطاع العام يوفر قاعدة دخل مستقرة تحفز النشاط الاقتصادي المحلي وتزيد القدرة الشرائية للمواطنين.
بالنسبة للمستثمرين، المحليين والأجانب، تتبلور فرص استثمارية جديدة في المحافظات المحررة مع تحسن البيئة التنظيمية والسياسية. قطاعات مثل الاتصالات، والخدمات المصرفية، والبنية التحتية، تحتاج إلى استثمارات ضخمة يمكن أن تحقق عائدات مجزية في ظل الاستقرار المتوقع. كما أن تحسين الشرعية الدولية للحكومة يقلل من المخاطر السياسية المرتبطة بهذه الاستثمارات.
المشاركة المجتمعية في مراقبة تنفيذ الإصلاحات تمثل عنصراً حاسماً لضمان الشفافية والمساءلة. المجتمع المدني والإعلام وقطاع الأعمال مدعوون للعب دور فاعل في متابعة تطبيق الإصلاحات والإبلاغ عن أي انحرافات أو مخالفات. هذه المشاركة لا تضمن فقط سير الإصلاحات في المسار الصحيح، بل تعزز أيضاً الثقة العامة في النظام الاقتصادي الجديد.
في ختام هذا التحليل، يبدو أن اليمن يقف على أعتاب مرحلة جديدة قد تشهد تحولاً جذرياً في مساره الاقتصادي. الدعم الدولي المتزايد، والالتزام الحكومي بالإصلاحات الشاملة، والتوجه نحو الشفافية والمساءلة، كلها عوامل تشير إلى إمكانية تحقيق نقلة اقتصادية حقيقية. رغم التحديات القائمة، فإن الاستقرار المؤسسي الذي أظهره مجلس القيادة الرئاسي، حتى في ظل غياب بعض الأعضاء، يعكس نضجاً سياسياً ومؤسسياً يبشر بمستقبل أكثر إشراقاً للاقتصاد اليمني.