في لحظة تاريخية قد تعيد تشكيل مسار الصراع اليمني، جدد مجلس الأمن الدولي نظام العقوبات ضد الحوثيين بأغلبية ساحقة بلغت 13 صوتاً، مع امتناع روسيا والصين فقط. لكن هذا القرار لا يشبه التجديدات الروتينية السابقة - فهو يحمل في طياته علامات واضحة على تحول جذري في الموقف الدولي، من عقود من "التسامح الحذر" إلى نهج أكثر صرامة يعكس نفاد صبر المجتمع الدولي مع سلوك الحوثيين المتصاعد. السؤال الذي يطرح نفسه: كيف وصل المجتمع الدولي إلى هذا المنعطف الحاد، وما هي العلامات المبكرة التي أشارت إلى انتهاء "عصر التسامح الدولي" مع هذه الجماعة؟
المرحلة الأولى (2014-2018): عصر "التفهم الحذر"
عندما سيطر الحوثيون على صنعاء في سبتمبر 2014، تعامل معهم المجتمع الدولي كطرف سياسي شرعي يحمل مظالم حقيقية. كانت الجهود الدبلوماسية تتركز على إشراكهم في عملية سياسية شاملة، مع افتراض أن العنف مجرد وسيلة تفاوضية ستنتهي بتحقيق مكاسب سياسية معقولة. بريطانيا نفسها، التي تقود اليوم حملة تشديد العقوبات، كانت من أبرز الدول الأوروبية التي تدافع عن ضرورة "فهم" دوافع الحوثيين ومنحهم مساحة للمناورة السياسية.
العلامة المبكرة الأولى لتبدل هذا الموقف ظهرت تدريجياً مع بداية استخدام الحوثيين للطائرات المسيرة ضد المنشآت المدنية في دول الجوار. لم تكن هذه مجرد خروقات تكتيكية، بل إشارات واضحة إلى أن الجماعة تتطور من مليشيا محلية ذات مطالب سياسية إلى قوة إقليمية تستخدم التهديد كأداة دبلوماسية. غير أن المجتمع الدولي، المنشغل بأولويات أخرى، تعامل مع هذه التطورات كتصعيد مؤقت ضمن ديناميكية صراع محلي.
التحول الحقيقي بدأ عندما أدرك المراقبون الدوليون أن الحوثيين لا يكتفون بالبحث عن مكانة سياسية محلية، بل يسعون لتأسيس نموذج حكم يعتمد على التهديد المستمر كركيزة أساسية للشرعية. كانت هذه بداية النهاية لعصر "التفهم الحذر" الذي ميز السنوات الأولى من الصراع.
المرحلة الثانية (2019-2022): بداية التشكيك
مع تصاعد الهجمات على المنشآت النفطية السعودية وتطور تقنيات الحوثيين العسكرية، بدأت تظهر تقارير دولية تنتقد بوضوح انتهاكات الجماعة لحقوق الإنسان واستخدامها المنهجي للتجنيد القسري والاغتيالات السياسية. هذه التقارير، الصادرة عن منظمات دولية محايدة، شكلت العلامة المبكرة الثانية للتحول القادم في الموقف الدولي.
ما ميز هذه المرحلة هو بداية تغير جوهري في لهجة البيانات الأممية. بدلاً من الدعوات المعتادة "لجميع الأطراف" للالتزام بالقانون الدولي، بدأت تظهر إدانات محددة لسلوكيات الحوثيين، خاصة فيما يتعلق بعرقلة وصول المساعدات الإنسانية واستخدام المدنيين كدروع بشرية. كان هذا التحول في الخطاب الدبلوماسي مؤشراً مبكراً على تآكل الشرعية الدولية التي تمتعت بها الجماعة في سنواتها الأولى.
المفارقة أن هذه المرحلة شهدت أيضاً ذروة الجهود الدبلوماسية لإشراك الحوثيين في تسويات سياسية، من اتفاق ستوكهولم إلى مبادرات وقف إطلاق النار المختلفة. غير أن فشل هذه المبادرات المتكرر، وتراجع الحوثيين عن التزاماتهم باستمرار، زرع بذور الإحباط التي ستثمر لاحقاً موقفاً دولياً أكثر تشدداً.
المرحلة الثالثة (2023-2024): "الصحوة الدولية"
كانت هجمات البحر الأحمر نقطة التحول الحاسمة. فللمرة الأولى منذ بداية الصراع، تأثرت المصالح الاقتصادية الغربية المباشرة بشكل ملموس ومؤلم. ارتفاع تكاليف النقل البحري وتراجع حركة التجارة العالمية عبر قناة السويس لم تعد مجرد أرقام في تقارير اقتصادية، بل أصبحت حقائق تمس جيوب المستهلكين الأوروبيين وأرباح الشركات الغربية مباشرة.
العلامة المبكرة الثالثة، والأكثر وضوحاً، كانت تغير الموقف البريطاني من "التماهي إلى المواجهة". بريطانيا، التي دافعت لسنوات عن ضرورة فهم دوافع الحوثيين، باتت تقود حملة دولية لتشديد العقوبات عليهم. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في السياسة، بل انعكاساً لتغير جذري في فهم طبيعة التهديد الحوثي من مشكلة إقليمية إلى تحدٍ لنظام التجارة العالمية برمته.
تقرير فريق الخبراء الأمميين الحاد الذي رُفع قبل أسبوعين من القرار الأخير، والذي فنّد بالتفصيل جميع انتهاكات الحوثيين وتعاونهم مع شبكات الإرهاب الدولية، شكل القشة التي قصمت ظهر البعير. لم يعد بإمكان أي دولة عضو في مجلس الأمن التذرع بعدم وجود أدلة كافية أو الحاجة لمزيد من التحقيق.
اللحظة الراهنة: "انتهاء عصر التسامح"
القرار الأخير يمثل تتويجاً للتحول التدريجي الذي امتد عبر عقد كامل. حصوله على 13 صوتاً مقابل امتناع روسيا والصين فقط يعكس توافقاً دولياً نادراً في عالم منقسم جيوسياسياً. حتى الدول التي تحافظ تقليدياً على مواقف محايدة في الصراعات الإقليمية صوتت لصالح تشديد العقوبات، مما يشير إلى أن التهديد الحوثي بات يُنظر إليه كمسألة أمن جماعي وليس مجرد نزاع محلي.
دلالات الموقفين الروسي والصيني المتباينين تستحق تأملاً عميقاً. روسيا برَّرت امتناعها بأن القرار "غير متوازن ويعادي طرفاً رئيسياً في النزاع"، مما يكشف عن استمرار النظرة الروسية للحوثيين كورقة مفيدة في اللعبة الجيوسياسية الأوسع ضد النفوذ الغربي. أما الصين فبررت موقفها بالقلق من تأثير القرار على الملاحة في البحر الأحمر، مما يعكس تركيز بكين على المصالح الاقتصادية المباشرة أكثر من الاعتبارات الجيوسياسية.
ما يمكن استشرافه للمرحلة القادمة هو انتقال من منطق "العقوبات كأداة ضغط" إلى منطق "العقوبات كخطوة أولى نحو المواجهة المباشرة". الخبراء العسكريون يصفون هذا القرار بأنه "شكل من أشكال الحرب أو التهيئة لمعركة قادمة"، وأن "تجفيف منابع القوة" للحوثيين سيساهم في "إنضاج معركة عسكرية قادمة".
الخاتمة: ما وراء الأرقام والقرارات
العلامات المبكرة الثلاث الأساسية للتحول - من التململ الدولي من السلوك العسكري للحوثيين، إلى ظهور تقارير دولية تنتقد انتهاكاتهم بوضوح، وصولاً إلى تغير الموقف البريطاني من التماهي إلى المواجهة - تشير جميعها إلى أن المجتمع الدولي وصل إلى نقطة اللاعودة في تعامله مع هذه الجماعة. القرار الأخير ليس مجرد تجديد روتيني للعقوبات، بل إعلان رسمي عن انتهاء "عصر التسامح الدولي" مع الحوثيين.
أثر هذا التحول على فرص السلام في اليمن مزدوج: فمن جهة، قد يدفع الحوثيين للتراجع عن تصعيدهم العسكري والعودة للمسار السياسي تحت ضغط العزلة الدولية المتزايدة. ومن جهة أخرى، قد يدفعهم لمزيد من التطرف والاعتماد على الدعم الإيراني، مما قد يقود إلى تصعيد عسكري أوسع نطاقاً.
السؤال المفتوح الذي يواجه صانعي السياسة اليمنيين والإقليميين والدوليين: هل هذا "النهج الجديد" سيحقق الاستقرار المنشود، أم أنه سيفتح الباب أمام فصل جديد من عدم الاستقرار الإقليمي؟ الإجابة ستحددها الأشهر القادمة، لكن شيئاً واحداً مؤكد: العالم لن يتعامل مع الحوثيين بالطريقة نفسها التي تعامل بها معهم خلال العقد الماضي.