في لحظة تاريخية فاصلة، وبعد إحدى عشرة سنة من قرارات متكررة لم تغير شيئاً على الأرض، يواجه الشعب اليمني حقيقة مؤلمة: المجتمع الدولي عجز عن تقديم حلول فعّالة، وحان الوقت لأن يأخذ اليمنيون زمام المبادرة ببناء حلولهم بأيديهم. القرار الأخير لمجلس الأمن بتجديد العقوبات حتى نوفمبر 2026 ليس مجرد إجراء روتيني، بل رسالة واضحة: النظام الدولي الحالي غير قادر على كسر حلقة العنف المفرغة، وامتناع الصين وروسيا عن التصويت يكشف تصدعات في الإجماع الدولي تفتح نوافذ جديدة للحلول المحلية.
دليل فهم اللعبة: لماذا تكرر مجلس الأمن نفس القرار 11 مرة؟
المحلل السياسي ياسين التميمي يضع يده على جوهر المشكلة عندما يؤكد أن القرار الحالي "روتيني سنوي" هدفه الحقيقي "إبقاء الحالة اليمنية على ما هي عليه". هذا التصريح يكشف لنا حقيقة صادمة: القرارات الدولية تحولت من أدوات للتغيير إلى آليات لإدارة الصراع وتجميده. منذ صدور القرارين الأساسيين 2041 و2216 تحت الفصل السابع، أصدر المجلس أكثر من 11 قراراً على مدى سنوات الحرب، وجميعها تعيد العمل بنفس المبادئ دون تطوير حقيقي.
لكن ما يجعل هذا الفشل المتكرر فرصة تاريخية هو أن المجتمع الدولي بات يدير الصراع بدلاً من حله. فريق الخبراء نفسه أقرّ بوجود "ثغرات كبيرة ينفذ من خلالها الحوثيون للتملص من العقوبات"، مما يعني أن الآليات الدولية أصبحت غير فعّالة بالمرة. هذا الاعتراف الصريح بالفشل يخلق مساحة استراتيجية يمكن للقوى اليمنية المحلية استغلالها لتطوير آليات بديلة.
الأهم من ذلك هو فهم منطق استمرار هذه القرارات الروتينية. كما يوضح التميمي، "عدم تجديد القرار سيحرر جميع الأطراف اليمنية من رقابة الأمم المتحدة، وسيعطل الوساطة الأممية". هذا يعني أن القرارات تحولت إلى قيود على الحلول المحلية أكثر من كونها أدوات للإصلاح، وأن الخروج من هذا الإطار قد يفتح إمكانيات جديدة للمبادرات اليمنية الذاتية.
خريطة القوى الحقيقية: من يتحكم فعلياً في الملف اليمني؟
الخبير العسكري د. علي الذهب يكشف لنا خريطة القوى الحقيقية عندما يشير إلى أن "الرباعية المتحكمة في الملف اليمني" تضم الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات. هذا التحليل يوضح أن القرارات الدولية ليست نتاج إجماع عالمي، بل انعكاس لمصالح محددة لدول بعينها، وهو ما يفسر امتناع الصين وروسيا عن التصويت.
بريطانيا، بصفتها "حاملة القلم في الملف اليمني في مجلس الأمن"، تلعب دور المنسق لهذه الرباعية، بينما تركز الولايات المتحدة على الجانب العسكري والأمني. هذا التقسيم للأدوار يكشف أن الملف اليمني أصبح رهينة لحسابات جيوسياسية لا علاقة لها بالحل الفعلي للأزمة. السعودية والإمارات تمثلان البعد الإقليمي، بينما الولايات المتحدة وبريطانيا تجسدان البعد الدولي.
أما امتناع الصين وروسيا فيحمل دلالات عميقة تتجاوز الخلافات التقنية حول "آلية التفتيش في أعالي البحار". كما يوضح الذهب، المندوب الصيني "أشار ضمنياً لبعض الدول بالتورط أو الانخراط في دعم الحوثيين"، وهو إشارة إلى أن محاور دولية أخرى باتت تلعب في الملف اليمني خارج إطار الرباعية المهيمنة. هذا التشرذم في الموقف الدولي يخلق فرصاً استراتيجية للقوى المحلية اليمنية لبناء تحالفات جديدة.
صندوق أدوات الحلول المحلية: البدائل العملية المتاحة
المفارقة الكبيرة في الملف اليمني أن استمرار فشل الحلول الدولية يفتح المجال واسعاً أمام الحلول المحلية. عندما يعترف فريق الخبراء بوجود ثغرات كبيرة في نظام العقوبات، فهذا يعني أن الشبكات المحلية أكثر فعالية ومرونة من الآليات الدولية الجامدة. هذه القدرة على التكيف والمناورة يمكن توجيهها لبناء حلول إيجابية بدلاً من استخدامها في التهرب من العقوبات.
التجارب الناجحة في مناطق الصراع تُظهر أن الحلول المحلية تعتمد على ثلاثة أسس: بناء مؤسسات محلية قوية تستطيع العمل خارج إطار الدولة المنهارة، وتطوير شبكات اقتصادية بديلة تقلل الاعتماد على المساعدات الخارجية، وإنشاء آليات أمنية محلية تحمي هذه المؤسسات والشبكات. في اليمن، توجد بذور هذه العناصر الثلاثة، لكنها تحتاج إلى تنسيق وتطوير.
الميزة الكبيرة للحلول المحلية أنها لا تخضع لقيود القانون الدولي ولا تتطلب موافقة مجلس الأمن. عندما يشير التميمي إلى أن "القرارات تثبت الحالة على ما هي عليه"، فهو في الواقع يصف قيوداً مفروضة على التغيير، وليس أدوات للإصلاح. الخروج من هذا الإطار يتطلب جرأة وإبداعاً، لكنه ممكن ومجرّب في تجارب دولية أخرى مثل كوسوفو وإريتريا وتيمور الشرقية.
خطة العمل: كيف نبدأ من اليوم
الخطوة الأولى العملية تبدأ بإدراك أن امتناع الصين وروسيا عن التصويت ليس مجرد موقف سياسي، بل فرصة استراتيجية. هاتان القوتان العظميان تشكلان كتلة اقتصادية وسياسية هائلة خارج إطار الرباعية المهيمنة، ويمكن للقوى اليمنية المحلية استكشاف إمكانيات التعاون معهما في مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا دون التقيد بالعقوبات الأمريكية-البريطانية.
على الصعيد الإقليمي، التشرذم في الموقف الدولي يخلق مساحات للمناورة مع دول الجوار. عُمان، على سبيل المثال، تحتفظ بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف ويمكن أن تلعب دور الوسيط والممول للمشاريع الاقتصادية العابرة للحدود. دول القرن الأفريقي، التي تعاني من نفس مشاكل التهميش الدولي، يمكن أن تشكل شراكات طبيعية لبناء شبكات تجارية واقتصادية بديلة.
الخطوة الثالثة تتطلب الاستفادة من "الثغرات الكبيرة" في نظام العقوبات التي اعترف بها فريق الخبراء. هذه الثغرات لا تعني فقط قدرة الحوثيين على تهريب السلاح، بل تعني أيضاً قدرة القوى المحلية الأخرى على بناء شبكات اقتصادية وتجارية خارج نطاق الرقابة الدولية. هذه الشبكات يمكن توجيهها لبناء قدرات إنتاجية وخدمية بدلاً من الأنشطة التدميرية.
الأهم من كل ذلك هو بناء تحالفات محلية عابرة للانتماءات السياسية والمناطقية، تتفق على برنامج عمل اقتصادي واجتماعي واضح. هذه التحالفات لا تحتاج إلى موافقة مجلس الأمن، ولا تخضع لرقابة فريق الخبراء، ويمكنها أن تحقق نتائج ملموسة على الأرض بسرعة أكبر من القرارات الدولية المعقدة.
استشراف المستقبل: اليمن بعد انتهاء عصر انتظار القرارات الدولية
الدبلوماسي د. محمد جميح يضع يده على نقطة محورية عندما يشير إلى أن الحوثيين "أدخلوا الملف اليمني ضمن لعبة التوازنات الدولية والمصالح الأخرى للدول الكبرى". هذا التشخيص يكشف أن الخروج من هذه اللعبة ليس مجرد خيار، بل ضرورة وجودية للشعب اليمني. كلما طال الانتظار، كلما تعمقت جذور التبعية وصعُبت استعادة زمام المبادرة.
التجربة اليمنية في بناء الحلول الذاتية يمكن أن تصبح نموذجاً لمناطق الصراع الأخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا. عندما ينجح اليمنيون في كسر دورة الاعتماد على القرارات الدولية، فسيرسلون رسالة قوية للعالم: الشعوب قادرة على حل مشاكلها بنفسها عندما تتوقف عن انتظار المنقذ الخارجي. هذا النموذج سيلهم شعوب سوريا وليبيا والسودان وغيرها لتطوير حلولها الذاتية.
المستقبل الذي نتطلع إليه ليس يمناً بلا مشاكل، بل يمناً تحكمه إرادته الذاتية وليس قرارات القوى الخارجية. عندما يتحرر اليمن من قيود القرارات الدولية المتكررة، سيستطيع شعبه إطلاق طاقاته الإبداعية الهائلة في البناء والتطوير. التاريخ اليمني حافل بالإنجازات الحضارية العظيمة التي تمت دون مساعدة أو توجيه خارجي، والوقت حان لاستعادة هذا التقليد العريق.
بعد إحدى عشرة سنة من الحرب والقرارات الدولية العاجزة، بات واضحاً أن الحل لن يأتي من نيويورك أو لندن أو واشنطن، بل من صنعاء وعدن وتعز والحديدة. امتناع الصين وروسيا عن التصويت، واعتراف فريق الخبراء بفشل العقوبات، وتأكيد المحللين أن القرارات "روتينية" تهدف لتجميد الوضع، كلها علامات على انهيار النموذج الدولي القديم. هذا الانهيار ليس مأساة، بل فجر جديد يمكن للإرادة اليمنية أن تشرق فيه. الأدوات متاحة، والفرص مفتوحة، والتاريخ ينتظر. السؤال الوحيد المتبقي: هل سيجد اليمنيون الجرأة لبناء حلولهم بأيديهم، أم سيستمرون في انتظار قرار رقم 12 من مجلس الأمن؟