في عالم الدبلوماسية الدولية، تخفي البيانات الرسمية أحياناً تحولات جذرية في المواقف السياسية. وما حدث مؤخراً في قرار مجلس الأمن الجديد بشأن اليمن يكشف عن واقع مخفي: تجاهل القرار 2216 في بيان المجلس الأخير قد يعني أكثر من مجرد تحديث إجرائي للعقوبات. إنه إشارة صامتة إلى أن المجتمع الدولي يعيد تقييم أدواته السياسية في التعامل مع الأزمة اليمنية، وهو ما استغله المجلس الانتقالي الجنوبي لإطلاق أجرأ تصريحاته السياسية منذ سنوات.
الأدلة الأولى: ما الذي تغيّر في موقف مجلس الأمن؟
تحليل مقارن دقيق للقرار 2760 الصادر في 14 نوفمبر 2025 مقابل القرارات السابقة يكشف عن تحول لافت في اللغة والأولويات. بينما ظل القرار 2216 لعام 2015 يُذكر في ديباجات القرارات السابقة كمرجعية أساسية، جاء القرار الأخير بصيغة مختلفة تركز على "التدابير المفروضة بموجب الفقرتين 11 و15 من القرار 2140" مع إشارة عابرة للقرار 2216.
الأهم من ذلك، أن المجلس تبنى لغة أكثر تشدداً مع الحوثيين واصفاً إياهم بـ"تهديد للسلم والأمن الدوليين"، وهو توصيف يعيد إحياء روح الفصل السابع التي بُني عليها القرار 2216 أصلاً. هذا التحول يعكس إحباطاً دولياً متزايداً من فشل المقاربات التقليدية في احتواء التهديدات الحوثية البحرية والصاروخية.
كما لوحظ غياب التأكيد المعتاد على "الوحدة اليمنية" بالصيغة الحادة التي اعتادت القرارات السابقة، مما خلق مساحة تفسيرية جديدة استثمرها الجنوبيون سياسياً. تركيز المجلس على "العملية السياسية الشاملة" دون التشديد المفرط على وحدة الأراضي يشير إلى مرونة أكبر في التعامل مع التعقيدات السياسية اليمنية.
تشريح التصريح: قراءة ما بين السطور في موقف الخُبجي
تصريح ناصر الخُبجي لم يكن مجرد رد فعل، بل استراتيجية محسوبة لاستثمار نافذة فرصة سياسية نادرة. استخدامه لعبارة "تجاهل مجلس الأمن للقرار 2216" يحمل رسالة دبلوماسية مزدوجة: فمن جهة يسعى لإقناع الرأي العام الدولي بأن المرجعيات القديمة لم تعد فعالة، ومن جهة أخرى يحاول بناء أساس قانوني لمطالب سياسية جديدة.
الترتيب الزمني للتصريح - بعد ساعات من صدور قرار مجلس الأمن - يكشف عن مستوى عالٍ من التنسيق والاستعداد المسبق. هذا يشير إلى أن القيادة الجنوبية كانت تراقب بدقة التطورات في نيويورك وتستعد لاستثمار أي تحول في الموقف الدولي.
لغة التصريح نفسها تعكس نضجاً دبلوماسياً، حيث تجنب الخُبجي الاتهامات المباشرة أو الدعوات الاستفزازية، مركزاً بدلاً من ذلك على مفاهيم "العدالة" و"الحق في تقرير المصير". هذه الصياغة المتوازنة تهدف إلى كسب التعاطف الدولي دون إثارة ردود فعل سلبية من الأطراف المؤيدة للوحدة اليمنية.
الأنماط المخفية: كيف تطورت المواقف الدولية تجاه الملف اليمني؟
تحليل التطورات السياسية الإقليمية والدولية خلال العامين الماضيين يكشف عن تحول تدريجي في النظرة للأزمة اليمنية. الولايات المتحدة، التي كانت تركز تقليدياً على مواجهة الحوثيين كوكلاء إيرانيين، باتت أكثر اهتماماً بالاستقرار الإقليمي وحماية الملاحة الدولية. هذا التحول في الأولويات الأمريكية انعكس على صياغة قرارات مجلس الأمن التي باتت تركز أكثر على التهديدات البحرية.
دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات، تواجه ضغوطاً داخلية متزايدة لإنهاء تدخلها المكلف في اليمن. هذا الواقع دفع نحو البحث عن حلول سياسية أكثر مرونة، حتى لو تطلب ذلك إعادة النظر في بعض المسلّمات السابقة حول الوحدة اليمنية.
التطورات الجيوسياسية الأوسع، من الحرب في أوكرانيا إلى التوترات في بحر الصين الجنوبي، خففت من الاهتمام الدولي المباشر باليمن. هذا التراجع في الاهتمام خلق فراغاً استراتيجياً استثمره الفاعلون المحليون، بما فيهم الجنوبيون، لطرح رؤاهم السياسية بجرأة أكبر.
الاتحاد الأوروبي، المنشغل بأزماته الداخلية وتداعيات البريكست والهجرة، تبنى موقفاً أكثر براغماتية من الأزمة اليمنية، مركزاً على الجوانب الإنسانية والأمنية أكثر من الجوانب الأيديولوجية المتعلقة بالوحدة الترابية.
السيناريوهات المحتملة: خريطة الطريق للسلام أم إعادة ترتيب للمعادلات؟
السيناريو الأول يقوم على فرضية نجاح المجلس الانتقالي في ترجمة هذا التصريح إلى زخم سياسي دولي حقيقي. هذا يتطلب بناء تحالفات إقليمية ودولية تدعم الرؤية الجنوبية، واستثمار التحولات في السياسات الخليجية تجاه اليمن. المؤشرات الإيجابية لهذا السيناريو تشمل الدعم الإماراتي المستمر والتطورات الإيجابية في العلاقات السعودية-الجنوبية.
السيناريو الثاني ينطلق من احتمالية فشل الدبلوماسية الجنوبية في تحويل هذا التصريح إلى مكاسب سياسية ملموسة. في هذه الحالة، قد نشهد تراجعاً تدريجياً في الزخم السياسي الجنوبي، مع إمكانية عودة التركيز الدولي على الحلول التقليدية القائمة على الوحدة اليمنية. هذا السيناريو قد يؤدي إلى إحباط شعبي جنوبي وتصاعد في التوترات الداخلية.
سيناريو ثالث محتمل يقوم على تطور الأوضاع باتجاه إعادة تشكيل شاملة للخريطة السياسية اليمنية، حيث تؤدي الضغوط الإقليمية والدولية إلى قبول صيغة فيدرالية أو كونفيدرالية توفق بين الطموحات الجنوبية والحفاظ على شكل من أشكال الوحدة اليمنية. هذا السيناريو يحتاج إلى توافق إقليمي ودولي واسع وقد يكون الأكثر واقعية.
المؤشرات التي ستحدد أي سيناريو سيتحقق تشمل ردود الفعل الحكومية اليمنية الرسمية، والموقف السعودي في الأسابيع المقبلة، ومستوى الدعم الشعبي الجنوبي للمواقف المعلنة. كما ستلعب التطورات الميدانية دوراً حاسماً في تحديد جدوى أي من هذه السيناريوهات.
الاستنتاجات: ما تكشفه البيانات عن مستقبل اليمن
التحليل الجنائي للبيانات والمواقف يكشف عن نتيجة محورية: نحن أمام لحظة تحول حقيقية في التعامل الدولي مع الأزمة اليمنية. تجاهل القرار 2216 في بيان مجلس الأمن الأخير ليس مجرد تفصيل إجرائي، بل انعكاس لتطور في الفهم الدولي لطبيعة الصراع ومتطلبات حله.
الأزمة اليمنية تدخل مرحلة جديدة تتسم بمرونة أكبر في التعامل مع التعقيدات السياسية والجغرافية. هذه المرونة تخلق فرصاً جديدة للحلول المبتكرة، لكنها تحمل أيضاً مخاطر عدم الاستقرار إذا لم تُستثمر بحكمة.
النجاح في استثمار هذه النافذة الزمنية يتطلب من جميع الأطراف اليمنية، وخاصة الجنوبيين، تطوير استراتيجيات دبلوماسية أكثر تطوراً وبناء تحالفات عابرة للحدود الجغرافية والسياسية. كما يتطلب من المجتمع الدولي التخلي عن الحلول النمطية والانفتاح على صيغ سياسية جديدة تعكس واقع الأرض وتطلعات الشعوب.
المؤشرات الرقمية والنوعية تشير إلى أن العام 2026 قد يكون عاماً فاصلاً في مسيرة الحل السياسي اليمني. النجاح في هذا المسعى يتطلب تضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية، والأهم من ذلك، الاستعداد لقبول حقائق جديدة قد تعيد تشكيل خريطة المنطقة بأكملها.
في نهاية المطاف، ما كشفه تصريح الخُبجي ورد فعله على قرار مجلس الأمن ليس مجرد موقف سياسي، بل انعكاساً لتحولات جذرية في المشهد الإقليمي والدولي. هذه التحولات تفتح أبواباً جديدة أمام حلول مبتكرة للأزمة اليمنية، لكنها تتطلب حكمة سياسية واستراتيجية من جميع الأطراف لضمان أن تؤدي إلى سلام مستدام وعادل للجميع، وليس إلى مزيد من التشرذم والصراع.