الرئيسية أخبار جرائم القتل والاختطاف ما يحدث حقاً في قلوب اليمنيين عندما يتذكرون زمن الضيافة والأمان؟

ما يحدث حقاً في قلوب اليمنيين عندما يتذكرون زمن الضيافة والأمان؟

16 نوفمبر 2025
07:40 ص
حجم الخط:
ما يحدث حقاً في قلوب اليمنيين عندما يتذكرون زمن الضيافة والأمان؟

في زوايا كل بيت يمني، تسكن ذاكرة ضيافة لا تُمحى. عندما نقرأ قصة شاب يقف في ظلمة قرية، محمولاً بين الخوف والأمل، باحثاً عن مأوى يحميه من برد الليل والغربة، فإننا لا نقرأ مجرد حكاية شخصية. نحن أمام مرآة تعكس شيئاً عميقاً في النفس اليمنية، شيئاً يتجاوز السياسة والأزمات، ليصل إلى جوهر ما نحن عليه كشعب.

في تلك اللحظة المصيرية عند باب الشيخ، حيث يتحول الخوف من "الشيوعي المتسلل" إلى كرم الجار الذي يصف الضيف بـ"ولد مسكين"، نشهد صراعاً يتجاوز حدود الزمن. إنه الصراع بين الخوف الذي تزرعه الأزمات والفطرة الإنسانية التي تتجذر في أعمق طبقات ثقافتنا.

عندما كانت القرى ملاذاً آمناً: الذاكرة الجمعية للأمان

تحمل هذه القصة في طياتها حنيناً جمعياً لزمن كانت فيه القرى اليمنية ملاذات آمنة، حيث كان المسافر يجد المأوى والحماية حتى لو كان غريباً. حين نقرأ عن ذلك الشاب الذي يقف وحيداً في ظلمة القرية، نستحضر صورة اليمني المعاصر الذي يبحث عن الأمان في وطنه أو خارجه. الخوف الذي تسلل إلى نفسه ليس مجرد خوف شخصي، بل انعكاس لحالة نفسية جمعية يعيشها اليمنيون اليوم.

تلك اللحظة عندما "أظلمت القرية وتسرب الخوف إلى نفسي" تتردد في قلوب آلاف اليمنيين الذين فقدوا أمانهم المألوف. القرية التي كانت رمزاً للاستقرار والحماية الاجتماعية، تحولت في تلك اللحظة إلى مكان مجهول ومخيف، تماماً كما تحول الوطن في تجربة كثيرين من أبنائه إلى مساحة من عدم اليقين.

لكن الأمل يكمن في تلك التفاصيل الدقيقة التي تكشف عن استمرارية القيم الأصيلة. حتى في ذروة الخوف والشك، ظهر الجار الطيب الذي أنقذ الموقف. هذا ليس مجرد حدث عابر، بل تأكيد على أن النفس اليمنية، رغم كل الظروف القاسية، تحتفظ بجوهرها الإنساني النبيل.

رموز الحماية: من الشك إلى الضيافة في ثوانٍ

المشهد الذي يتحول فيه الشك إلى ثقة، والخوف إلى حماية، يحمل دلالات عميقة حول طبيعة المجتمع اليمني وقدرته على التمييز بين الخطر الحقيقي والخوف المصطنع. الشيخ الذي اتهم الضيف بأنه "شيوعي ملعون" كان يعكس حالة الهلع السياسي التي سادت في تلك الفترة، لكن الجار الذي دافع عنه ووصفه بـ"ولد مسكين" كان يمثل صوت الحكمة الشعبية والفطرة السليمة.

كلمة "مسكين" في هذا السياق تحمل معاني أعمق من مجرد وصف للحالة المادية. إنها كلمة سر للدخول إلى دائرة الرحمة والحماية في المجتمع اليمني. عندما يقول اليمني عن شخص "مسكين"، فهو لا يصف فقره المادي، بل يستدعي حالة من التعاطف والحماية الاجتماعية التي تجعل المجتمع كله مسؤولاً عن هذا الشخص.

هذا التحول السريع من الاتهام إلى الحماية يعكس خاصية مهمة في الشخصية اليمنية: القدرة على تصحيح المسار عندما تظهر الحقيقة. الجار لم يكتف بالدفاع عن الضيف، بل تحمل مسؤولية إيصاله إلى مكان آمن. هذا النوع من المسؤولية الاجتماعية التلقائية هو ما يميز الثقافة اليمنية ويجعلها قادرة على الصمود في وجه أصعب الظروف.

بيت الصوفي: نموذج مصغر للمجتمع المثالي

بيت الصوفي في هذه القصة ليس مجرد مكان للمبيت، بل نموذج مصغر لما يمكن أن يكونه المجتمع اليمني في أفضل حالاته. هنا نجد كل العناصر التي تشكل الهوية اليمنية الأصيلة: الضيافة الكريمة، احترام الضيف، التسامح الديني، والكرم الذي لا يحدده المستوى المادي للمضيف.

الصوفي الذي جاء من يافع ليستقر في هذه القرية يمثل روح الانفتاح والتسامح التي ميزت اليمن عبر التاريخ. كونه "ليس من أهل القرية" لم يمنعه من أن يصبح ملجأ للمحتاجين وقبلة للمساكين. هذا يعكس قدرة المجتمع اليمني على استيعاب القادمين الجدد وإدماجهم في النسيج الاجتماعي عندما يحملون قيماً إيجابية.

طقوس الضيافة في بيت الصوفي تحمل رمزية خاصة. العشاء المشترك حيث تجلس الفتاة مع الضيف وأبيها، يكسر الحواجز الاجتماعية التقليدية ويؤكد على أن الكرم الحقيقي لا يعرف قيوداً. هذا المشهد، الذي بدا غريباً للضيف آنذاك، يعكس مستوى متقدماً من الثقة الاجتماعية والتحضر الذي كان سائداً في تلك البيئة.

السمر في الديوان حول "القات" وتبادل الحديث، ثم مشهد الصوفي وهو يملي على ابنته من كتب التصوف، كل هذا يرسم صورة لمجتمع يحتفي بالمعرفة ويقدر العلم والثقافة. الخط الجميل لصفاء، الذي ظل محفوراً في ذاكرة الضيف حتى في أحلك ظروفه في المعتقل، يرمز إلى دور المرأة اليمنية كحارسة للثقافة ناقلة للتراث.

الحب كجسر بين العوالم: عندما تتلاقى القيم والعواطف

الحب الذي انبثق في قلب الضيف لصفاء يتجاوز مجرد العاطفة الشخصية ليصبح رمزاً لحب أعمق وأشمل. إنه حب للجمال والثقافة والقيم التي تمثلها هذه الفتاة. عندما يقول "كانت البنت صفاء تنغرس في قلبي مثل السكين"، فهو لا يصف مجرد ألم الحب، بل ألم الانفصال عن عالم جميل اضطر لتركه.

صفاء في هذا السياق ليست مجرد فتاة جميلة، بل تجسيد للثقافة اليمنية في أبهى صورها. جمالها الجارح، صوتها العذب، خطها الجميل، حتى طريقة تحركها "بخفة الغزال"، كلها عناصر تشكل صورة مثالية للمرأة اليمنية كما تحتفظ بها الذاكرة الجمعية. هي حارسة التراث ونقطة التقاء بين الماضي والحاضر.

الدور الذي لعبته في تسجيل ما يمليه أبوها من كتب التصوف يعكس دور المرأة اليمنية التاريخي في حفظ ونقل التراث الثقافي والديني. خطها الجميل الذي أثر في الضيف لدرجة أنه تذكره في أحلك لحظات حياته في المعتقل، يرمز إلى قوة التأثير الإيجابي الذي يمكن أن تمارسه المرأة المثقفة في تشكيل وعي الآخرين.

هذا الحب الذي "داهمه على حين غرة" يمثل أيضاً صدمة اللقاء بين عالمين: عالم الخوف والقلق الذي جاء منه الضيف، وعالم الأمان والجمال والثقافة الذي وجده في بيت الصوفي. إنه حب للقيم والمبادئ والجمال، أكثر منه حباً شخصياً، وهو ما يفسر عمق تأثيره واستمراريته في الذاكرة.

ما تبقى في القلب: لماذا نحن ما نحن عليه اليوم؟

هذه القصة تطرح سؤالاً عميقاً: ماذا تبقى من تلك القيم في قلوب اليمنيين اليوم؟ الجواب يكمن في التفاصيل الصغيرة التي تظهر يومياً في تصرفات الناس العاديين. كل يمني يستضيف نازحاً في بيته، كل من يقدم المساعدة لمحتاج دون انتظار مقابل، كل من يحافظ على كرامة الآخرين في أصعب الظروف، إنما يعيد إنتاج تلك القيم التي تجسدت في شخصيات هذه القصة.

الخوف الذي عاشه المشايخ في تلك الفترة من "الشيوعيين" يشبه إلى حد كبير المخاوف التي تسود اليوم من تيارات فكرية وسياسية مختلفة. لكن الحكمة الشعبية، التي تمثلت في موقف الجار الطيب، تبقى هي البوصلة الحقيقية التي ترشد المجتمع للتمييز بين الخطر الحقيقي والخوف المصطنع.

نحن اليوم بحاجة إلى استعادة روح التسامح والانفتاح التي جسدها بيت الصوفي. في زمن يسوده الاستقطاب والتشدد، نحتاج لاستلهام تلك القدرة على الجمع بين التدين والانفتاح، بين المحافظة على القيم والترحيب بالآخر، بين القوة والحكمة.

الضيافة التي قدمها بيت الصوفي، والحماية التي وفرها الجار الطيب، والكرم الذي لا يحده الخوف السياسي أو الفقر المادي، هذه ليست مجرد ذكريات جميلة من الماضي، بل هي الأسس التي يمكن أن تُبنى عليها نهضة يمنية حقيقية. عندما نتذكر أننا أحفاد أولئك الذين فتحوا بيوتهم للغرباء وقدموا الحماية للخائفين، فإننا نستعيد الثقة في قدرتنا على تجاوز أصعب الأزمات والعودة لنكون كما كنا: شعباً يؤمن أن كرامة الإنسان أهم من كل الاعتبارات الأخرى.

في النهاية، هذه القصة تذكرنا بأن ما يجعلنا يمنيين ليس الجغرافيا أو السياسة، بل تلك القيم الإنسانية العميقة التي تحولت إلى فطرة في نفوسنا. في كل مرة نقرأ فيها عن ضيافة كريمة أو حماية للضعيف أو جمال يأسر القلوب، فإننا لا نقرأ عن الماضي فحسب، بل نقرأ عن إمكانيات المستقبل. نحن شعب الضيافة والكرم والجمال، وهذا ما سيبقى في قلوبنا مهما تغيرت الظروف.

آخر الأخبار

عاجل: بنكان في عدن يبدآن صرف مرتبات متراكمة لآلاف الموظفين - العمالقة وثلاث محافظات تستلم أموالها!

عاجل: بنكان في عدن يبدآن صرف مرتبات متراكمة لآلاف الموظفين - العمالقة وثلاث محافظات تستلم أموالها!

فريق التحرير منذ أسبوع
عاجل: أهالي عدن بدون كهرباء 14 ساعة يومياً... والسبب صادم يتعلق بتهريب النفط!

عاجل: أهالي عدن بدون كهرباء 14 ساعة يومياً... والسبب صادم يتعلق بتهريب النفط!

فريق التحرير منذ أسبوع