الرئيسية أخبار جرائم القتل والاختطاف لماذا كشف خدعة العروض العسكرية يعني أن على اليمنيين إعادة قراءة تاريخهم السياسي الآن

لماذا كشف خدعة العروض العسكرية يعني أن على اليمنيين إعادة قراءة تاريخهم السياسي الآن

16 نوفمبر 2025
06:40 ص
حجم الخط:
لماذا كشف خدعة العروض العسكرية يعني أن على اليمنيين إعادة قراءة تاريخهم السياسي الآن

لثلاثة عقود، كانت الصورة تتكرر كل عام في ميدان السبعين: منصة عالية، وقائد قصير القامة يبدو عملاقاً وسط ضيوفه من الرؤساء والملوك، والكتائب تسير في انتظام مهيب، والطيران يحلق فوق الرؤوس في عرض مذهل للقوة. كانت هذه الصورة تُبث إلى كل بيت يمني، تحمل رسالة واضحة: لديكم جيش عظيم موحد قادر على حماية الوطن والنظام الجمهوري. لكن وراء هذه الواجهة البراقة، كان يتشكل واقع أكثر مرارة ومأساوية - واقع سيكشف عن نفسه بطرق مدمرة في السنوات اللاحقة، وما زال اليمنيون يعيشون تبعاته حتى اليوم.

الجذور التاريخية: كيف تم تحويل الجيش من حامي الوطن إلى أداة قمع (1978-1990)

عندما وصل علي عبد الله صالح إلى السلطة في يوليو 1978 خلفاً للرئيس أحمد الغشمي، لم يكن مجرد تغيير في القيادة، بل بداية لمشروع طويل المدى لإعادة تشكيل العلاقة بين الجيش والدولة في اليمن. كانت تجربة الشهيد إبراهيم الحمدي (1974-1977) قد أظهرت ملامح واعدة لدولة المؤسسات، حيث بدأ في بناء مؤسسات حقيقية للدولة وتطوير عقيدة عسكرية وطنية. لكن صالح اختار مساراً مغايراً تماماً.

أسس صالح بعناية فائقة لفصل الجيش والأمن عن مفهوم الدولة، ليس لضعف في الرؤية أو نقص في الخبرة، بل لهدف واضح: تمكين سلطته السياسية من ابتلاع دولة المؤسسات الناشئة. كان يدرك أن الجيش المؤسسي المدرب على عقيدة وطنية حقيقية قد يشكل تهديداً لسلطته الشخصية في المستقبل، فاختار تحويله إلى أداة في خدمة نظامه السياسي.

هذا التحول لم يحدث بين عشية وضحاها، بل كان عملية منهجية استمرت لسنوات. بدأ بتهميش الضباط ذوي التوجهات الوطنية وترقية المقربين والموالين، ثم تدريجياً حول التدريب العسكري من التركيز على العقيدة القتالية الوطنية إلى التركيز على الولاء الشخصي. كانت العروض العسكرية المهيبة في ميدان السبعين تخفي هذا التحول الخطير، وتبيع للشعب اليمني وهماً عن جيش قوي ومتماسك.

الفرصة الضائعة: الوحدة اليمنية ومشروع الدولة الديمقراطية (1990-1994)

جاءت الوحدة اليمنية عام 1990 لتشكل منعطفاً تاريخياً حاسماً. للمرة الأولى في تاريخ اليمن الحديث، كانت هناك فرصة حقيقية لبناء دولة وطنية ديمقراطية موحدة، بمشاركة الحزب الاشتراكي اليمني الذي جلب معه خبرة في بناء المؤسسات ورؤية تقدمية للحكم. كان دستور 1990 واتفاقية الشراكة والاندماج يضعان الأسس لنظام ديمقراطي حقيقي يقوم على التداول السلمي للسلطة والمشاركة الفعلية في الحكم.

في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، وقف صالح أمام خيار صعب: هل ينحاز إلى مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية أم يختار الحفاظ على سلطته الشخصية؟ لم يتردد صالح في الاختيار. وقف في صف السلطة ضد الدولة، وفي صف العقل السياسي التاريخي القائم على الهيمنة الفردية ضد العقل السياسي الحزبي القائم على المشاركة والتداول السلمي.

هذا الاختيار لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان قراراً استراتيجياً طويل المدى بتجريد اليمن من فرصته التاريخية في الانتقال إلى الديمقراطية الحقيقية. لم يكن صالح معنياً بصناعة المجد التاريخي بقدر ما كان مهووساً بالبقاء في قمة السلطة، مهما كان الثمن الذي سيدفعه الشعب اليمني.

نقطة التحول الكارثية: حرب 1994 واعتراف 2007 الصادم

جاءت حرب صيف 1994 الأهلية لتشكل نقطة التحول الكارثية في تاريخ اليمن الحديث. لم يكتف صالح بالانتصار العسكري وتسريح وحدات الجيش القادمة من الجنوب، بل استغل هذا الانتصار لتعميق تجريد الجيش من عقيدته القتالية الحقيقية وتحويله بشكل كامل إلى أداة في صراعاته السياسية. بدأ مشروع السيطرة العائلية على المؤسسة العسكرية والأمنية من خلال تعيين أقاربه في المناصب الحساسة وإقصاء كل من قد يشكل تهديداً لهيمنته.

هذا التحول الجذري في طبيعة الجيش لم يكن سراً يخفيه صالح، بل أعلن عنه صراحة في اعترافه الصادم أمام الصحفي أحمد منصور على شاشة الجزيرة عام 2007. عندما قال بوضوح لا يقبل التأويل: "إن جيشي معد لقمع الشعب مثل بقية الجيوش العربية"، لم يكن هذا مجرد تصريح عابر أو زلة لسان، بل كان اعترافاً صريحاً بحقيقة ما آل إليه الجيش اليمني بعد عقدين من حكمه.

هذا الاعتراف يحمل دلالات عميقة ومدمرة. في أي دولة ديمقراطية في العالم، لو صدر مثل هذا التصريح من رئيس دولة لكان سبباً في محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، لأنه يعترف علناً بتحويل المؤسسة العسكرية من وظيفتها الأساسية في حماية الوطن والشعب إلى أداة لقمع هذا الشعب نفسه. لكن في اليمن، تحول هذا الاعتراف المدمر في نظر أنصار صالح إلى دليل على "الحنكة السياسية" و"الشجاعة" التي تميز قائدهم عن غيره من الرؤساء!

الإرث المدمر: من خداع العروض إلى انهيار الدولة

استمرت العروض العسكرية المهيبة في ميدان السبعين حتى نهاية حكم صالح، تبيع للشعب اليمني وهم امتلاك جيش قادر على حماية الثورة والجمهورية والوحدة اليمنية. لكن الواقع على الأرض كان مختلفاً تماماً. الجيش الذي بناه صالح على مدار أكثر من ثلاثة عقود لم يكن مؤهلاً لمواجهة التحديات الحقيقية التي تهدد اليمن، لأنه لم يتدرب قط في مدرسة التكوين السياسي الوطني.

عندما اندلعت الثورة الشعبية عام 2011، انكشف هشاشة هذا الجيش وعجزه عن القيام بدوره الطبيعي في حماية الوطن. بدلاً من ذلك، انقسم الجيش على نفسه، وتحول إلى جزء من الصراع بدلاً من أن يكون حامياً للاستقرار. ما حدث لاحقاً من سيطرة جماعة الحوثيين على مؤسسات الدولة، بما في ذلك أجزاء كبيرة من الجيش، لم يكن مجرد صدفة أو نتيجة لظروف استثنائية، بل كان النتيجة الطبيعية لعقود من تجريد الجيش من عقيدته الوطنية الحقيقية.

اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات من الحرب والدمار، يمكن للمراقب أن يرى بوضوح الخيط الذي يربط بين خداع العروض العسكرية في عهد صالح والانهيار المؤسسي الذي يشهده اليمن اليوم. الجيش الذي كان معداً لقمع الشعب، كما اعترف صالح نفسه، لم يكن قادراً على حماية هذا الشعب عندما جاءت اللحظة الحاسمة.

الدروس المستفادة: الحاجة الملحة لإعادة قراءة التاريخ

إن فهم كيف نجحت "ثقافة الخداع البصري" في الحكم لثلاثة عقود كاملة ليس مجرد تمرين أكاديمي في النقد التاريخي، بل ضرورة حيوية لفهم جذور الأزمة اليمنية الراهنة وإيجاد مخرج حقيقي منها. العروض العسكرية المهيبة في ميدان السبعين لم تكن مجرد احتفالات وطنية، بل كانت جزءاً من منظومة متكاملة لخداع الشعب وإقناعه بوهم امتلاك قوة عسكرية حقيقية.

هذا الدرس له أهمية خاصة للجيل الجديد من اليمنيين الذين لم يعيشوا تجربة تلك الحقبة مباشرة. فهم بحاجة إلى فهم كيف يمكن للصورة أن تكذب، وكيف يمكن للعروض المهيبة أن تخفي واقعاً مختلفاً تماماً. الوعي بهذه الحقيقة ليس مجرد معرفة تاريخية، بل أداة ضرورية لتجنب تكرار الأخطاء نفسها في المستقبل.

إن بناء أي مشروع وطني مستقبلي في اليمن يتطلب أولاً فهماً نقدياً عميقاً للتجارب السابقة. لا يمكن بناء جيش وطني حقيقي دون التعلم من فشل التجربة السابقة في تحويل الجيش إلى أداة قمع. ولا يمكن بناء دولة مؤسسات حقيقية دون فهم كيف تم تدمير محاولات بناء هذه المؤسسات في الماضي. التاريخ هنا ليس عبئاً ينبغي نسيانه، بل مدرسة ينبغي التعلم منها.

إن كشف خدعة العروض العسكرية ليس نقداً للماضي فحسب، بل دعوة ملحة لإعادة بناء الوعي التاريخي اليمني على أسس سليمة. فقط عندما يفهم اليمنيون كيف خُدعوا في الماضي، سيكونون قادرين على بناء مستقبل مختلف. والأهم من ذلك، عندما يدركون أن القوة الحقيقية ليست في العروض المهيبة والأزياء الملونة، بل في بناء مؤسسات وطنية حقيقية قادرة على خدمة الشعب وحماية الوطن، وليس قمعهما. هذا هو الدرس الأهم الذي يجب أن يستخلصه اليمنيون من تجربة العقود الماضية: أن المجد الحقيقي لا يكمن في التمجيد الزائف، بل في البناء الصادق لدولة تخدم شعبها وتحمي كرامته.

آخر الأخبار

عاجل: بنكان في عدن يبدآن صرف مرتبات متراكمة لآلاف الموظفين - العمالقة وثلاث محافظات تستلم أموالها!

عاجل: بنكان في عدن يبدآن صرف مرتبات متراكمة لآلاف الموظفين - العمالقة وثلاث محافظات تستلم أموالها!

فريق التحرير منذ أسبوع
عاجل: أهالي عدن بدون كهرباء 14 ساعة يومياً... والسبب صادم يتعلق بتهريب النفط!

عاجل: أهالي عدن بدون كهرباء 14 ساعة يومياً... والسبب صادم يتعلق بتهريب النفط!

فريق التحرير منذ أسبوع