في أحد أيام شهر نوفمبر الماضي، تلقى الدكتور حمود العودي مكالمة هاتفية من جهاز الأمن. كان المطلوب حضوره مع رفيقيه عبد الرحمن العلفي وأنور خالد شعب لمقابلة روتينية. لم يكن الرجل السبعيني يعلم أن هذه المكالمة ستقطع خيط رحلة استمرت شهوراً طويلة، رحلة بدأت بحلم بسيط: إعادة الكهرباء إلى العاصمة صنعاء. ما لا تعرفه الكثير من نشرات الأخبار هو القصة الحقيقية وراء هؤلاء الرجال الثلاثة، الذين ضحوا بصحتهم وأموالهم وراحتهم الشخصية ليحولوا حلماً مستحيلاً إلى واقع ملموس، قبل أن يجدوا أنفسهم خلف القضبان لا لشيء سوى أنهم آمنوا بأن الوطن يستحق التضحية.
الرجل الذي رفض الاستسلام: حمود العودي وحلم الكهرباء المستحيل
عندما نظر الدكتور حمود العودي إلى شوارع صنعاء المظلمة في إحدى ليالي الصيف الحارة، لم يكن يرى مجرد انقطاع في التيار الكهربائي، بل كان يرى معاناة ملايين اليمنيين الذين يعيشون في ظلام دامس. كان العودي، عالم الاجتماع المخضرم الذي تجاوز السبعين من عمره، يدرك أن هناك حلولاً تقنية لمشكلة الكهرباء، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب الإرادة السياسية والانقسامات التي تحول دون تنفيذها.
لم تكن الفكرة وليدة اللحظة، بل نتاج سنوات من التفكير العميق في أزمة اليمن الشاملة. فالعودي، الذي كان قد واجه اتهامات فكرية منذ عقود بسبب آرائه في علم الاجتماع، كان يؤمن بأن الكهرباء ليست مجرد خدمة عامة، بل رمز للأمل والوحدة الوطنية. كان يرى في إعادة توصيل الكهرباء من مأرب إلى صنعاء خطوة أولى نحو مصالحة وطنية أوسع، ترتكز على المصالح المشتركة للشعب اليمني.
التحدي الأكبر لم يكن تقنياً فحسب، بل شخصياً أيضاً. فالرجل السبعيني، الذي كان يعاني من مشاكل صحية مرتبطة بتقدم السن، قرر أن يخاطر بكل شيء من أجل هذا المشروع. كان يدرك أن الطريق محفوف بالمخاطر السياسية والأمنية، لكنه آمن بأن التاريخ لن يغفر للمثقفين الذين اختاروا الصمت في اللحظات الحاسمة. هكذا، وبإمكانيات مادية متواضعة جداً، بدأ العودي ورفيقاه رحلتهم الشاقة نحو تحقيق ما بدا مستحيلاً.
رحلة في الظلام: من مأرب إلى صنعاء عبر الحواجز والمخاطر
كانت الرحلات بين مأرب وصنعاء تتطلب شجاعة استثنائية وتخطيطاً دقيقاً. فالطريق الذي يربط بين المحافظتين محفوف بالحواجز الأمنية والنقاط العسكرية التابعة لأطراف متعددة، كل منها له حساباته ومصالحه الخاصة. لم يكن العلفي، المهندس الذي يعاني من أمراض لم يتمكن من معالجتها بسبب الأوضاع، يتردد في تحمل مشاق السفر وتكاليفه الباهظة، رغم أن وضعه الصحي كان يتطلب الراحة والعلاج.
في كل رحلة، كان الثلاثة يحملون معهم مقترحات تقنية مفصلة حول كيفية إعادة تشغيل خط الكهرباء، بالإضافة إلى خطط تمويل متواضعة اعتماداً على جهودهم الشخصية. كانوا يلتقون بمسؤولين في الطاقة والكهرباء، ويناقشون التحديات التقنية واللوجستية، ويحاولون إقناع الأطراف المختلفة بأهمية المشروع للمواطن العادي. لم تكن هذه اللقاءات سهلة، فكل طرف كان يطرح شروطه ومتطلباته، والبعض كان ينظر إلى المشروع بريبة أو كجزء من أجندة سياسية مخفية.
أنور خالد شعب، الذي وصفه الجميع بالعصامي صاحب القدرات المعرفية الاستثنائية، كان الحلقة الرابطة بين الجانب التقني والجانب التفاوضي للمشروع. كان يستخدم خبرته في التعامل مع مختلف الشخصيات والثقافات لبناء جسور الثقة مع المسؤولين، وكان دائماً ما يؤكد أن الهدف هو خدمة الشعب اليمني بغض النظر عن الانتماءات السياسية. لكن هذه الرحلات الشاقة والمفاوضات المعقدة كانت تستنزف قواهم الجسدية والمالية، خاصة أنهم كانوا يعتمدون كلياً على إمكانياتهم الشخصية المتواضعة.
أكثر من مجرد كهرباء: الحلم الأكبر للمصالحة الوطنية
ما جعل مشروع الكهرباء مختلفاً عن غيره من المشاريع التقنية هو الرؤية الفكرية العميقة التي كانت تحركه. فالعودي ورفيقاه لم يكونوا ينظرون إلى الكهرباء كخدمة منعزلة، بل كجزء من منظومة شاملة للمصالحة الوطنية. كانوا يؤمنون بأن استعادة الخدمات الأساسية يمكن أن تكون نقطة التقاء لكل اليمنيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الجغرافية، وأن النجاح في هذا المشروع قد يفتح الباب أمام تعاون أوسع في مجالات أخرى.
مركز "منارات" الذي أسسوه كان أكثر من مجرد مؤسسة بحثية، بل كان بمثابة منصة للحوار الوطني المفتوح. رغم الإمكانيات المحدودة جداً، كان المركز ينظم جلسات نقاش ومؤتمرات صغيرة يجتمع فيها مثقفون وأكاديميون ونشطاء مجتمعيون من خلفيات متنوعة لبحث القضايا الوطنية الملحة. كان الهدف هو خلق مساحة آمنة للحوار بعيداً عن الاستقطاب السياسي، مساحة يمكن فيها للأفكار أن تتفاعل وتتطور بحرية.
في الوقت نفسه، كانوا يعملون على قضايا أخرى ذات صلة بالخدمة العامة، مثل مشكلة المرتبات للموظفين المحرومين منها، وفتح الطرق بين المحافظات المختلفة لتسهيل التنقل والتجارة. كل هذه الجهود كانت تصب في هدف واحد: إثبات أن التعاون الوطني ممكن عندما يتم التركيز على المصالح المشتركة للشعب. كانوا يعتقدون أن هذه النماذج الصغيرة للنجاح يمكن أن تتراكم تدريجياً لتشكل أساساً صلباً للمصالحة الوطنية الشاملة التي كان اليمن في أمس الحاجة إليها.
الثمن الحقيقي للمبادئ: لماذا يدفع هؤلاء الأبطال الثمن؟
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا يختار رجال في سن العودي، وفي ظروف صحية ومالية صعبة كالعلفي، أن يخاطروا بحريتهم وسلامتهم من أجل قضايا يمكن أن يتركوها للجيل الأصغر أو للمسؤولين الحكوميين؟ الإجابة تكمن في فهم عميق لمعنى المسؤولية الوطنية والأخلاقية عند هذا الجيل من المثقفين اليمنيين.
بالنسبة للعودي، كان الأمر يتعلق بإرث فكري وأخلاقي يريد أن يتركه للأجيال القادمة. فالرجل الذي كرس حياته لدراسة المجتمع اليمني كان يدرك أن اللحظات التاريخية الحاسمة تتطلب من المثقفين أن يخرجوا من أبراجهم العاجية وأن يترجموا أفكارهم إلى أفعال ملموسة. لم يكن يريد أن يُذكر كمجرد أكاديمي نظري، بل كرجل آمن بأفكاره وضحى من أجلها، حتى لو كان الثمن حريته الشخصية.
العلفي، رغم معاناته من أمراض كان بحاجة لعلاجها، كان يرى في هذا العمل فرصة لإعطاء معنى أعمق لحياته المهنية. فالمهندس الذي عاش سنوات طويلة في العمل التقني البحت، وجد في مشروع الكهرباء طريقة لربط خبرته التقنية بخدمة وطنه في أصعب لحظاته. كان يؤمن بأن الوطنية الحقيقية تُقاس بالأفعال وليس بالكلمات، وأن الظروف الصعبة هي التي تكشف معدن الرجال الحقيقيين.
أما أنور خالد شعب، فكان يمثل نموذجاً للشاب العصامي الذي بنى نفسه بنفسه وحقق نجاحاً مهنياً ومعرفياً متميزاً، لكنه لم ينس جذوره ولم يتنكر لمسؤولياته الوطنية. كان يرى في هذا المشروع فرصة لرد الجميل لبلده الذي منحه الفرصة للنمو والتطور، وكان يؤمن بأن النجاح الشخصي لا معنى له إذا لم يترافق مع عطاء للمجتمع.
بين الأمل واليأس: ما يعنيه إطلاق سراحهم للوطن
اعتقال هؤلاء الثلاثة لا يؤثر فقط على مشاريعهم الشخصية، بل يرسل رسالة مثبطة لكل من يفكر في المبادرات الوطنية الجامعة. فعندما يُعتقل أشخاص كانوا يعملون على حل مشاكل أساسية كالكهرباء والمرتبات، وبطرق سلمية وشفافة، فإن ذلك يخلق مناخاً من الخوف والتردد بين المثقفين والنشطاء المدنيين. الخطر الأكبر هو أن يؤدي ذلك إلى انكفاء الطاقات الوطنية المخلصة وتراجعها عن المشاركة الفعالة في البناء الوطني.
من ناحية أخرى، فإن الإفراج عنهم سيكون له تأثير رمزي قوي على مستوى الوطن. سيعني ذلك أن هناك مساحة للعمل الوطني البناء، وأن المبادرات التي تهدف لخدمة المواطن محل تقدير واحترام. سيشجع ذلك المزيد من المبادرات المماثلة، ويخلق نموذجاً إيجابياً للتعاون الوطني الذي يتجاوز الانقسامات السياسية. كما أنه سيعيد الثقة لدى المثقفين والأكاديميين في إمكانية العمل الوطني دون خوف من المساءلة أو الاعتقال.
الأهم من ذلك، أن إطلاق سراحهم سيمكنهم من استكمال المشاريع التي بدأوها، خاصة مشروع الكهرباء الذي كان على وشك تحقيق نتائج ملموسة. فاليمن في أمس الحاجة إلى مثل هذه المبادرات العملية التي تركز على تحسين الخدمات الأساسية للمواطنين. وكما قال أحد المراقبين: "إن الإفراج عن هؤلاء الثلاثة ليس مجرد عفو عن أشخاص، بل استثمار في مستقبل الوطن وإشارة أمل للجميع بأن اليمن يمكن أن يجد طريقه نحو الاستقرار والوحدة عبر العمل المشترك والمبادرات البناءة التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار."
في نهاية المطاف، قصة العودي والعلفي وأنور خالد تتجاوز كونها مجرد خبر عن اعتقال ثلاثة أشخاص. إنها قصة عن معنى الوطنية الحقيقية في زمن الأزمات، وعن الثمن الذي يدفعه الرجال الشرفاء عندما يختارون المبادئ على المصالح الشخصية. إنها تذكير بأن الوطن لا يُبنى بالكلمات والشعارات فقط، بل بالأفعال والتضحيات الحقيقية. والأمل أن تكون هذه القصة بداية لفصل جديد من التقدير للمبادرات الوطنية الصادقة، وليس نهاية لحلم كان يمكن أن يضيء شوارع صنعاء ويوحد قلوب اليمنيين.