يدق وزير الصحة العامة والسكان قاسم بحيبح ناقوس خطر على المسرح الدولي، محذراً من تحدٍ مصيري يواجه بلده. فمن منصة قمة المناخ في البرازيل، لا يقف بحيبح مجرد وزير يشكو من مصاعب بلاده، بل يمثل صوت شعب يخوض معركة البقاء ضد تحالف مدمر: الحرب وتغير المناخ والنزوح. والسؤال الحاسم الذي يطرح نفسه: كيف يمكن لليمن أن يحول هذه العاصفة الكاملة من التحديات إلى نقطة انطلاق نحو مستقبل أكثر صموداً؟
الأزمة المركبة: خريطة التحديات اليمنية الراهنة
تواجه اليمن اليوم واقعاً معقداً لم يشهد له التاريخ المعاصر مثيلاً. فإلى جانب الصراع المسلح الذي دخل عامه العاشر، تضيف التغيرات المناخية طبقة إضافية من المعاناة على شعب أنهكته سنوات الحرب. وحسب كلمات الوزير بحيبح، فإن هذه "الأزمات المركبة والمتداخلة" تشمل أربعة عناصر أساسية: الصراع المستمر، وتغير المناخ، والنزوح الجماعي، وتزايد تدفقات المهاجرين الأفارقة.
تكمن خطورة هذا التشابك في أن كل عنصر يفاقم الآخر بطريقة تصاعدية. فالصراع يدمر البنية التحتية، مما يضعف قدرة البلاد على مواجهة الكوارث الطبيعية. وبدورها، تؤدي الكوارث المناخية إلى مزيد من النزوح، والذي يزيد الضغط على الموارد المحدودة أصلاً. وفي هذا الإطار، تشكل الأمراض المنقولة بالمياه والحشرات خطراً مضاعفاً في بيئة تفتقر إلى أدنى مقومات الرعاية الصحية.
الأرقام التي كشفها الوزير تختصر حجم الكارثة: أقل من نصف المرافق الصحية تعمل بكامل طاقتها. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل يعكس واقعاً مأساوياً يعيشه ملايين اليمنيين الذين باتوا محاصرين بين تداعيات الحرب وقسوة الطبيعة. والأكثر إثارة للقلق أن هذا النقص في الخدمات الصحية يأتي في أسوأ الأوقات، حين تحتاج البلاد إلى كل مرفق صحي متاح لمواجهة تفشي الأمراض المرتبطة بالتغيرات المناخية.
من الأزمة إلى الفرصة: الخطة الوطنية للصحة والمناخ
رغم قتامة المشهد، تحمل كلمات الوزير بحيبح بذور أمل حقيقية. فدعوته إلى "تعاون إقليمي ودولي لتنسيق الجهود" ليست مجرد نداء استغاثة، بل إستراتيجية واضحة لتحويل التحديات إلى فرص للنهوض. الخطة الوطنية للصحة والمناخ والنزوح التي أشار إليها تمثل نهجاً شمولياً لمعالجة التحديات المترابطة بطريقة متكاملة.
هذه الخطة تعكس تطوراً مهماً في التفكير الاستراتيجي اليمني. فبدلاً من التعامل مع كل أزمة بمعزل عن الأخرى، تتبنى نهجاً تكاملياً يدرك أن صحة المجتمع، والتكيف مع المناخ، وإدارة النزوح، كلها عناصر مترابطة في منظومة واحدة. وهذا النهج الشمولي يضع اليمن في موقع متقدم نسبياً، حيث تدرك العديد من الدول المتقدمة اليوم أهمية ربط السياسات المناخية بالصحة العامة.
الابتكار الحقيقي في هذا النهج يكمن في قدرته على تحويل الضعف إلى قوة. فالمناطق الساحلية والحدودية التي تشهد ضغطاً متزايداً من المهاجرين الأفارقة يمكن أن تصبح نماذج لإدارة الهجرة المناخية إذا ما توفر الدعم المناسب. وبالمثل، يمكن للخبرة اليمنية في التعامل مع الأزمات المتعددة أن تصبح مرجعاً دولياً لإدارة التحديات المناخية في بيئات الصراع.
صندوق أدوات الصمود: استراتيجيات عملية للمواطنين
يتطلب بناء الصمود المجتمعي أكثر من مجرد خطط حكومية، بل يحتاج إلى تمكين المواطنين بأدوات عملية للتكيف. في هذا الصدد، يمكن للأسر اليمنية اتخاذ خطوات محددة لحماية نفسها من تأثيرات التغيرات المناخية، حتى في ظل ضعف الخدمات الحكومية. إدارة المياه المنزلية تأتي في مقدمة هذه الأولويات، حيث يمكن لتقنيات بسيطة لتجميع مياه الأمطار وتنقية المياه الملوثة أن تقلل من مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه.
التحصينات الصحية الوقائية تمثل خط الدفاع الثاني. مع تزايد انتشار الأمراض المنقولة بالحشرات بسبب ارتفاع درجات الحرارة، تصبح الوقاية أكثر فعالية من العلاج. هذا يشمل استخدام الناموسيات المعالجة بالمبيدات، والحفاظ على النظافة الشخصية والبيئية، وتجنب تجمعات المياه الراكدة حول المنازل. كما يمكن للمجتمعات المحلية تطوير أنظمة إنذار مبكر تعتمد على المعرفة التقليدية والمراقبة المجتمعية للظواهر الجوية.
الزراعة المنزلية والمجتمعية تقدم حلولاً متعددة الفوائد. فزراعة المحاصيل المقاومة للجفاف في الحدائق المنزلية أو المساحات المجتمعية لا توفر الغذاء فحسب، بل تساهم أيضاً في تحسين جودة الهواء والتخفيف من آثار الجزر الحرارية في المناطق الحضرية. وتطوير شبكات التضامن المجتمعي يعزز من قدرة المجتمعات على مواجهة الصدمات، حيث يمكن لنظم المساعدة المتبادلة أن تعوض جزئياً عن ضعف الخدمات الحكومية.
الشراكة الاستراتيجية: دور التعاون الإقليمي والدولي
دعوة الوزير بحيبح للتعاون الإقليمي والدولي تأتي في توقيت حساس، حيث يشهد المجتمع الدولي اهتماماً متزايداً بربط العمل المناخي بالاستقرار والأمن. هذا التوجه يفتح أبواباً جديدة للشراكة تتجاوز النهج التقليدي للمساعدات الإنسانية إلى شراكة استراتيجية طويلة الأمد. البلدان المانحة تدرك اليوم أن الاستثمار في قدرة اليمن على التكيف مع المناخ لا يخدم الشعب اليمني فحسب، بل يساهم في الاستقرار الإقليمي ومنع موجات الهجرة غير النظامية.
النماذج الناجحة للشراكة الدولية في مواجهة أزمات مشابهة تقدم دروساً مهمة لليمن. تجربة كوستاريكا في التعافي من الكوارث الطبيعية وبناء اقتصاد مقاوم للمناخ، ونموذج فيتنام في إدارة الفيضانات الموسمية، وخبرة بنغلاديش في التأهب لإعصار دلتا، كلها تجارب يمكن تكييفها مع الواقع اليمني. المنظمات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة الصحة العالمية تطور بالفعل مشاريع في اليمن تركز على تعزيز الصمود المناخي.
الشراكة الفعالة تتطلب أكثر من مجرد تمويل، بل تحتاج إلى نقل التكنولوجيا وبناء القدرات المحلية. هذا يعني الاستثمار في تدريب الكوادر اليمنية على أحدث تقنيات التكيف المناخي، وتطوير مؤسسات بحثية محلية قادرة على مراقبة التغيرات المناخية وتطوير حلول مناسبة للبيئة اليمنية. كما يتضمن دعم القطاع الخاص اليمني في تطوير تقنيات وخدمات التكيف مع المناخ، مما يخلق فرص عمل ويعزز الاستدامة الاقتصادية للمشاريع المناخية.
النموذج اليمني: خارطة طريق للمستقبل
رغم التحديات الهائلة، تتمتع اليمن بإمكانات فريدة لتصبح نموذجاً عالمياً في إدارة الأزمات المتعددة والتكيف مع المناخ في بيئات الصراع. هذه الإمكانات تنبع من عمق التاريخ اليمني في التعامل مع التحديات البيئية، والذي امتد لآلاف السنين. فالحضارة اليمنية القديمة طورت نظماً متطورة لإدارة المياه والزراعة في بيئة صحراوية، والشعب اليمني اليوم يملك هذا الإرث من المعرفة التقليدية إلى جانب الحنكة المكتسبة من سنوات التحدي.
الاستثمار في رأس المال البشري يمثل الأساس الحقيقي للتحول. الشباب اليمني، الذي يشكل غالبية السكان، يملك طاقات هائلة وقدرة على التكيف يمكن توظيفها في مواجهة التحديات المناخية. تطوير برامج تدريبية متخصصة في التقنيات الخضراء، وريادة الأعمال المناخية، وإدارة الكوارث، يمكن أن يحول هذه الطاقات إلى قوة دافعة للتغيير. كما أن النساء اليمنيات، اللواتي يلعبن دوراً محورياً في إدارة الموارد المنزلية والمجتمعية، يمكن أن يصبحن قائدات في مجال التكيف المناخي إذا ما حصلن على التدريب والدعم المناسب.
تطوير الاقتصاد الأخضر يقدم مساراً واعداً للتعافي الاقتصادي. الطاقة الشمسية، التي تتمتع اليمن بإمكانات هائلة فيها، يمكن أن تصبح عماد نظام طاقة لامركزي ومقاوم للصدمات. الزراعة المستدامة وتقنيات حفظ المياه يمكن أن تحقق الأمن الغذائي وتخلق فرص عمل. والسياحة البيئية، المبنية على التراث الطبيعي والثقافي الغني لليمن، تقدم مصدر دخل مستدام للمجتمعات المحلية. رسالة الأمل هذه ليست مجرد تمنيات، بل رؤية قابلة للتحقيق بالإرادة والدعم المناسب، حيث يمكن لليمن أن ينتقل من مجرد ضحية للأزمات إلى رائد في مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين.
يقف اليمن اليوم على مفترق طرق تاريخي. فالكلمات التي ألقاها الوزير بحيبح من البرازيل لم تكن مجرد تحذير من كارثة وشيكة، بل دعوة للعمل تحمل في طياتها خارطة طريق للتحول. التحديات المناخية والصحية التي تواجه البلاد حقيقية ومعقدة، لكنها ليست مستحيلة الحل. بالجمع بين الحكمة التقليدية اليمنية والتقنيات الحديثة، وبالشراكة الاستراتيجية مع المجتمع الدولي، يمكن لليمن أن يبني مستقبلاً أكثر صموداً وازدهاراً. الطريق طويل ومليء بالتحديات، لكن الشعب اليمني أثبت عبر التاريخ قدرته على تحويل المحن إلى منح. واليوم، مع تضافر الجهود المحلية والدولية، يمكن لهذا التحول أن يصبح واقعاً يلهم العالم.