في قبو منزل في الحديدة، تحكي فاطمة - وهي أم لثلاثة أطفال - كيف انتظرت ستة أعوام كاملة لحظة انتهاء القصف والحصار. "قالوا لنا في 2018 أن الاتفاق سيجلب السلام"، تتذكر بمرارة، "لكن القصف لم يتوقف يوماً واحداً". هذه هي الحقيقة المرة التي لا يريد المجتمع الدولي الاعتراف بها حول اتفاق ستوكهولم - اتفاق وُصف بأنه "بارقة أمل" بينما هو في الحقيقة منح الشرعية الدولية لسيطرة مليشيا الحوثي على أهم موانئ اليمن، وحوّل آلية الأمم المتحدة إلى غطاء لتهريب الأسلحة الإيرانية.
الأسطورة الأولى: 'بعثة الأونمها تعمل بفعالية' - الواقع المخفي
عندما يتحدث المسؤولون الأمميون عن "التقدم المحرز" في الحديدة، فإنهم يتجاهلون عمداً الحقائق الموثقة على الأرض. منذ توقيع الاتفاق، قُتل أكثر من 500 مدني وجُرح حوالي 800، نصفهم من النساء والأطفال، وفقاً للإحصائيات المحلية. هذا ليس فشلاً في التطبيق، بل فشل في التصميم الأساسي للاتفاق نفسه.
الدكتور عبد الوهاب العوج، المحلل السياسي، يضع الأمر في نصابه الصحيح: "اتفاق ستوكهولم وتشكيل الأونمها كان خطأ كبيراً، وأثبتت الأيام أنهم لا يستطيعون أن يتحركوا بحرية بل قيدهم الحوثي وسيطر على آلية عمل الأمم المتحدة". هذا التقييم الصادق يكشف الحقيقة التي تحاول البيانات الأممية إخفاءها: البعثة لم تعد أداة مراقبة مستقلة، بل أصبحت رهينة لدى الطرف الذي يُفترض أن تراقبه.
والأخطر من ذلك، أن البعثة منحت الحوثيين شرعية دولية لم يحلموا بها من قبل. كما يوضح العوج: "وجود هذه اللجنة أضفى نوعاً من الشرعية على ميليشيا انقلابية عليها قرارات دولية". بدلاً من إنهاء الانتهاكات، تحولت البعثة إلى أداة تشريع لها، ومنحت الحوثيين ستار "الشراكة الدولية" لممارساتهم.
الأسطورة الثانية: 'الاتفاق يحقق السلام' - كيف أصبح غطاءً للتسليح
أكثر الجوانب إثارة للقلق في اتفاق ستوكهولم هو كيف تحول من آلية لوقف إطلاق النار إلى بوابة لتعزيز القدرات العسكرية للحوثيين. الموانئ التي كان يُفترض أن تخضع للمراقبة الدولية - الحديدة ورأس عيسى والصليف - تحولت إلى نقاط عبور رئيسية للأسلحة الإيرانية المتطورة.
البيانات الميدانية تؤكد أن "الميليشيات الحوثية حصلت على شحنات متوارية من أسلحة متطورة من إيران واستهدفت السفن وأغرقت السفن"، كما يؤكد المحلل العوج. هذا التصعيد النوعي في التهديدات البحرية لم يكن ممكناً لولا الحماية التي وفرها الاتفاق للموانئ الحوثية تحت مظلة "الوضع الإنساني".
والأنكى من ذلك، أن البعثة الأممية كانت تعلم بهذه الانتهاكات لكنها اكتفت برفع "تقارير" إلى الأمين العام. كما يقول العوج بسخرية مُرة: "كل الأمور تشير إلى أن ما تقوم به هذه اللجنة هو مجرد تقارير ترفع إلى الأمين العام". تحولت المراقبة إلى مجرد توثيق للانتهاكات دون أي قدرة على منعها أو معاقبة مرتكبيها.
اليوم، بعد ست سنوات، نجد أن البحر الأحمر - الذي كان يُفترض أن يصبح أكثر أماناً بموجب الاتفاق - تحول إلى ساحة معركة مفتوحة تتعرض فيها السفن الدولية للاستهداف المباشر. الاتفاق الذي وُعد بأنه سيجلب الأمان للملاحة أصبح شاهداً على أخطر تهديد بحري في العقود الأخيرة.
الأسطورة الثالثة: 'التمديد للإصلاح' - الحقيقة وراء قرار 28 يناير 2026
عندما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة تمديد ولاية بعثة الأونمها حتى 28 يناير 2026، بدا الأمر وكأنه منح البعثة فرصة أخيرة "لإصلاح ما فسد". لكن التحليل العميق للسياق يكشف أن هذا التمديد جاء في الواقع بمثابة "فترة إعداد التقرير النهائي" وليس فرصة لإنجاز حقيقي.
تصريحات الأمين العام نفسه تؤكد هذا التوجه. كما يوضح الدكتور العوج: "الأمين العام في أكثر من تصريح وضح أنه لم يكن راضياً عن أداء اللجنة، والتمديد الأخير كان الغرض منه مراجعة وما قامت به وما لم تقم به". هذا اعتراف ضمني بأن البعثة فشلت في أداء مهامها الأساسية طوال السنوات الماضية.
الجدول الزمني نفسه يدعم هذا التفسير. شهران ونصف - هذا كل ما تبقى قبل انتهاء الولاية الجديدة. هذه المدة الضئيلة لا تكفي لإحداث تغيير جوهري في آلية عمل البعثة أو في الوضع الميداني. إنها بالكاد تكفي لإعداد تقرير شامل حول أسباب الفشل والدروس المستفادة.
المؤشرات الدولية تشير إلى اتجاه متزايد لوقف دعم هذه التجربة الفاشلة. الضغوط من الدول المانحة، وخيبة الأمل من النتائج، وتكاليف التشغيل المرتفعة، كلها عوامل تدفع باتجاه البحث عن بدائل أكثر فعالية للتعامل مع الأزمة اليمنية.
الصوت اليمني المكتوم: ماذا يقول أهل الحديدة الذين عاشوا الفشل؟
بينما تصدر البيانات الأممية من مكاتب مكيفة في عدن أو نيويورك، يواجه سكان الحديدة يومياً واقعاً أليماً يكذب كل تلك التقارير المطمئنة. غالب القديمي، الناشط الحقوقي من الحديدة، يضع الأمور في منظورها الصحيح بقوله إن "اتفاق ستوكهولم بحد ذاته نحن نعتبره في محافظة الحديدة هو مؤامرة على محافظة الحديدة، مؤامرة على إيقاف التحرير".
هذا التقييم من داخل المحافظة نفسها يكشف الفجوة الهائلة بين التصورات الدولية والواقع المعاش. بدلاً من تحرير الحديدة، كما كان مخططاً قبل الاتفاق، تحولت المحافظة إلى "سجن مفتوح لأهلها"، حسب تعبير القديمي. الاتفاق الذي وُعد بأنه سيعيد الحياة الطبيعية للمدينة أصبح السبب في استمرار معاناة أهلها.
الناشط الحقوقي لا يتردد في وصف البعثة بأنها "محلل لميليشيا الحوثي حتى تتوسع"، مشيراً إلى أن الوجود الأممي لم يقيد الحوثيين بل وفر لهم غطاءً دولياً لتوسيع نفوذهم. هذا التقييم الصادق من الميدان يتناقض تماماً مع السرديات الرسمية حول "دور البعثة الإيجابي".
موقف الحكومة اليمنية الرسمية، رغم دبلوماسيته، يحمل رسائل واضحة. عبارة "لدينا ملاحظات على أداء البعثة" التي أطلقها نائب وزير الخارجية مصطفى نعمان تبدو مهذبة، لكنها تحمل انتقاداً جذرياً لأداء البعثة. القديمي يترجم هذا الموقف المهذب بصراحة أكبر: "كان الأحرى به أن يقول نحن لا نقبل بالبعثة".
الدروس المستفادة: لماذا فشل نموذج ستوكهولم وكيف نتجنب تكراره؟
فشل اتفاق ستوكهولم لم يكن مجرد خطأ في التطبيق، بل عيب جوهري في التصميم الأساسي للاتفاق. العيب الأول كان في التعامل مع الحوثيين كـ"طرف سياسي شرعي" بدلاً من مليشيا انقلابية تخضع للقرارات الدولية. هذا الخطأ التأسيسي جعل كل البنود اللاحقة بلا معنى، لأنها بُنيت على أساس خاطئ.
العيب الثاني كان في الافتراض الساذج بأن المراقبة الأممية ستكون كافية لضمان الالتزام. الواقع أثبت أن المليشيات المدعومة إقليمياً لا تتردد في تقييد حركة المراقبين الدوليين وتحويلهم إلى شهود على انتهاكاتها بدلاً من رقباء عليها. البعثة أصبحت تقدم تقارير عن الانتهاكات دون أن تملك القدرة على منعها، مما جعلها مجرد "موثق للفشل".
العيب الثالث، والأخطر، كان في تجاهل الطبيعة الجغرافية والاستراتيجية للحديدة كنقطة حيوية للتجارة العالمية. منح السيطرة على هذه الموانئ لمليشيا مدعومة إيرانياً، حتى تحت "المراقبة الدولية"، كان بمثابة تسليم مفاتيح أحد أهم الممرات التجارية في العالم لقوى إقليمية معادية للاستقرار الدولي.
الدرس المستفاد الأساسي هو أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على أساس شرعنة الانقلابات أو مكافأة العنف بالاعتراف الدولي. اقتراح نقل مقرات البعثات الأممية من صنعاء إلى عدن، كما طرحه نائب وزير الخارجية نعمان، يعكس فهماً أعمق لضرورة التعامل مع الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، وليس مع الانقلابيين.
بعد ست سنوات من اتفاق ستوكهولم، حان الوقت للمجتمع الدولي أن يواجه الحقيقة المرة: الاتفاق لم يحقق السلام، بل شرعن الانتهاكات ووفر غطاءً لتعزيز قدرات مليشيا معادية للاستقرار الإقليمي والدولي. انتهاء ولاية البعثة في يناير 2026 يجب أن يكون بداية لمقاربة جديدة تقوم على الحقائق الميدانية وليس على الأوهام الدبلوماسية. الشعب اليمني، وخاصة أهل الحديدة، يستحق أكثر من تقارير أممية توثق معاناته دون أن تنهيها. يستحق استراتيجية حقيقية تعيد له الأمان والكرامة، بدلاً من آليات دولية تحولت إلى شاهد على فشل المجتمع الدولي في حماية الضعفاء من بطش المليشيات.