الرئيسية أخبار جرائم القتل والاختطاف ما سيحدث لليمن بعد انهيار فكرة الدولة نفسها (وكيف يستعد اليمنيون للمرحلة القادمة)

ما سيحدث لليمن بعد انهيار فكرة الدولة نفسها (وكيف يستعد اليمنيون للمرحلة القادمة)

16 نوفمبر 2025
01:05 ص
حجم الخط:
ما سيحدث لليمن بعد انهيار فكرة الدولة نفسها (وكيف يستعد اليمنيون للمرحلة القادمة)

في ضوء النهار القاسي لعام 2025، تقف اليمن أمام مرآة مكسورة تعكس واقعاً لم تعد فيه الدولة مجرد كيان هش، بل أصبحت فكرة غائبة تماماً. فبينما تتصدر اليمن قوائم أفقر وأخطر دول العالم، وتحتل المرتبة الثانية عالمياً في الفقر والأولى آسيوياً في انعدام الأمان، فإن ما يحدث يتجاوز مجرد أزمة دولة إلى انهيار فكرة الدولة ذاتها. إنه تحول نوعي خطير من "تعدد مراكز القوى" - وهو تنازع طبيعي داخل مؤسسات الدولة - إلى "تعدد مراكز الحكم"، حيث تفقد الدولة قدرتها على احتكار السلطة وتتحول إلى فضاء مفتت تحكمه سلطات موازية متنازعة.

التشخيص: من دولة هشة إلى لا-دولة

ما يميز الحالة اليمنية الراهنة عن مجرد "ضعف الدولة" هو الانتقال النوعي الذي حدث بعد 2015. فبينما كانت الدولة اليمنية قبل ذلك تعاني من هشاشة بنيوية وتعدد مراكز القوى المتنازعة داخل إطارها المؤسسي، فإن العقد الأخير شهد تحولاً جذرياً نحو ما يمكن وصفه بـ"تعدد مراكز الحكم". هذا المفهوم، الذي طوره الباحث جويل ميغدال في دراسته "الدولة في المجتمع"، يصف حالة انهيار البنية الاحتكارية للسلطة وظهور سلطات موازية تحل محل الدولة بدلاً من مجرد التنافس معها.

في اليمن اليوم، لم تعد هناك دولة مركزية تحتكر العنف المشروع أو تمارس السيادة على كامل الأراضي، بل مجموعة من السلطات المتوازية: جماعة الحوثي التي تسيطر على الشمال بمشروعها العقائدي العابر للمواطنة الوطنية، سلطات انفصالية في الجنوب تحلم بالعودة لدولة جنوبية مستقلة، ومناطق يسيطر عليها وكلاء إقليميون أو قوى محلية تدير شؤونها بشكل مستقل عن أي مرجعية مركزية.

هذا التحول لم يكن مجرد نتيجة للحرب الدائرة، بل نتاج تراكم تاريخي من الهشاشة البنيوية. فثورة 11 فبراير 2011 كشفت أن ما كان يُسمى "الدولة اليمنية" لم يكن سوى شبكة مصالح ومراكز نفوذ مترابطة حول شخص الحاكم، وليس بنية مؤسسية حقيقية. عندما سقط علي عبد الله صالح، انكشفت حقيقة أن الدولة كانت قائمة على توازنات قبلية وعسكرية ومناطقية أكثر من اعتمادها على عقد وطني جامع.

خريطة الواقع الجديد: مراكز الحكم المتنازعة

الجغرافيا السياسية لليمن اليوم تعكس بوضوح معنى "تعدد مراكز الحكم". في الشمال، تمارس جماعة الحوثي سلطة فعلية على مساحات واسعة تضم العاصمة صنعاء وأجزاء كبيرة من المرتفعات الشمالية، وتدير هذه المناطق وفق رؤيتها العقائدية الخاصة، بمؤسسات منفصلة تماماً عن الحكومة المعترف بها دولياً. هذه السلطة الحوثية لا تكتفي بمجرد السيطرة الأمنية، بل تطبق سياسات تعليمية وقضائية واقتصادية مختلفة، وتجبي الضرائب، وتصدر القوانين، وتمارس كافة وظائف الدولة.

في الجنوب، تسيطر قوى مختلفة على مناطق متعددة، بعضها يحمل أجندة انفصالية صريحة مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، وبعضها الآخر يمثل قوى قبلية أو عسكرية محلية تدير مناطقها بشكل مستقل. هذه القوى تتنافس فيما بينها، وكل منها يمتلك أجهزته الأمنية والإدارية الخاصة، ويقيم علاقات مباشرة مع أطراف إقليمية ودولية.

بين هذين القطبين، تتوزع مناطق أخرى تحت سيطرة قوى محلية مختلفة: قبائل مسلحة في مأرب والجوف، تحالفات عسكرية في الساحل الغربي، سلطات أمر واقع في حضرموت والمهرة. كل هذه الكيانات تدير مناطقها وفق رؤاها الخاصة، وتمتلك مواردها وأسلحتها ومراكز قرارها المستقلة، مما يجعل اليمن أشبه بفسيفساء من السلطات المتنازعة أكثر منه دولة موحدة.

السيناريوهات المحتملة: ثلاثة مسارات للمستقبل

أمام هذا الواقع المعقد، تتبلور ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل اليمن. السيناريو الأول هو استمرار الوضع الراهن، مما قد يؤدي إلى ترسيخ ما يشبه "الفيدرالية العملية غير المعلنة". في هذه الحالة، قد تستقر الحدود الفاصلة بين مناطق النفوذ المختلفة، وتتطور آليات تعايش أو تنسيق محدود بين السلطات المتعددة، خاصة في المجالات الاقتصادية والخدمية. هذا السيناريو، رغم أنه يحافظ على الاسم الرسمي لـ"الجمهورية اليمنية"، إلا أنه يكرس عملياً تقسيم البلاد إلى كانتونات أو أقاليم شبه مستقلة.

السيناريو الثاني يتمثل في محاولة إعادة التوحيد القسري، سواء من خلال انتصار عسكري لأحد الأطراف أو عبر تدخل خارجي حاسم. لكن هذا السيناريو ينطوي على مخاطر جسيمة، فمحاولة فرض الوحدة بالقوة على واقع مفتت بهذا الشكل قد تؤدي إلى مزيد من العنف والانقسام، خاصة أن كل طرف من الأطراف المسيطرة قد طور هياكله وولاءاته الخاصة التي لن يتخلى عنها بسهولة.

السيناريو الثالث، والأكثر صعوبة من الناحية السياسية لكنه قد يكون الأكثر واقعية، هو التقسيم الرسمي. قد تؤدي استحالة إعادة توحيد البلاد والتكاليف الباهظة لاستمرار الصراع إلى اعتراف دولي تدريجي بالكيانات القائمة على أرض الواقع. هذا لا يعني بالضرورة تقسيماً جغرافياً بسيطاً، بل قد يأخذ شكل كونفدرالية فضفاضة أو حتى دول منفصلة تماماً، خاصة بين الشمال والجنوب.

تقييم واقعي لاحتمالية هذه السيناريوهات يشير إلى أن السيناريو الأول (استمرار الوضع الراهن) هو الأرجح في المدى القصير إلى المتوسط، بينما يبقى السيناريو الثالث (التقسيم) احتمالاً متزايداً في المدى الطويل إذا فشلت جهود التوحيد. أما السيناريو الثاني (إعادة التوحيد القسري) فيبدو الأقل احتمالاً نظراً لعمق الانقسامات وتجذر مراكز الحكم المختلفة.

دليل البقاء: كيف يتأقلم اليمنيون مع الواقع الجديد

في مواجهة انهيار الدولة وتعدد مراكز الحكم، طور المجتمع اليمني استراتيجيات تكيف مذهلة تستحق الدراسة والتوثيق. على المستوى المحلي، برزت آليات حوكمة شعبية ومحلية لملء الفراغ المؤسسي، حيث تولت المجالس المحلية والزعامات القبلية والمؤسسات الدينية أدواراً توفر الخدمات الأساسية وتحافظ على النظام الاجتماعي. هذه الآليات، رغم محدوديتها، نجحت في منع الانهيار الكامل للحياة المدنية في مناطق كثيرة.

على المستوى الاقتصادي، تطورت شبكات تجارية عابرة للحدود السياسية الجديدة، حيث تمكن التجار والمزارعون من التأقلم مع تعدد السلطات والعملات. كما برز دور الحوالات والتحويلات المالية غير الرسمية في الحفاظ على الروابط الاقتصادية بين المناطق المختلفة، رغم الانقسام السياسي.

على المستوى الاجتماعي، حافظت الروابط العائلية والقبلية على وحدة النسيج الاجتماعي رغم التقسيمات السياسية، وطورت المجتمعات المحلية آليات للتعايش مع تعدد السلطات، من خلال التنقل بين المناطق المختلفة أو التعامل مع سلطات متعددة حسب الحاجة.

للمواطنين الذين يريدون التنقل في هذا الواقع المعقد، هناك نصائح عملية مستفادة من تجارب دول أخرى عاشت تجارب مماثلة. أهمها الحفاظ على شبكات العلاقات الاجتماعية عبر الحدود السياسية، وتنويع مصادر الدخل والخدمات، وتجنب الانحياز الواضح لأي طرف سياسي، والتركيز على البناء المحلي والمجتمعي بدلاً من انتظار الحلول السياسية الكبرى.

بصيص أمل: إمكانيات إعادة البناء من القاعدة

رغم قتامة المشهد الحالي، فإن التجربة اليمنية قد تحمل في طياتها إمكانيات لإعادة تعريف مفهوم الدولة بما يتناسب مع الواقع الاجتماعي والجغرافي المعقد لليمن. التنوع الذي يتميز به اليمن - جغرافياً وقبلياً وثقافياً - والذي كان يُعتبر مصدر ضعف، قد يصبح أساساً لبناء نموذج جديد من الحكم اللامركزي يحترم هذا التنوع ويستفيد منه.

الجيل الجديد من اليمنيين، الذي نشأ في ظل هذا التنوع وتعلم التعايش معه، قد يكون أكثر قدرة على تطوير صيغ سياسية مبتكرة تتجاوز النماذج التقليدية للدولة المركزية. تجارب الحوكمة المحلية التي برزت في مناطق مختلفة، والتي تمكنت من توفير الخدمات وحفظ الأمن رغم غياب الدولة المركزية، تقدم نماذج يمكن البناء عليها.

كما أن الشبكات الاقتصادية والاجتماعية التي تطورت عبر الحدود السياسية الجديدة قد تشكل أساساً لبناء كيان سياسي جديد يقوم على التعاون والتكامل بين الوحدات المختلفة بدلاً من الهيمنة المركزية. هذا النموذج، إذا تم تطويره بطريقة ديمقراطية وشاملة، قد يكون أكثر استدامة من محاولات إعادة فرض النموذج المركزي القديم الذي فشل في الماضي.

في النهاية، فهم هذا التحول من "تعدد مراكز القوى" إلى "تعدد مراكز الحكم" ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل ضرورة عملية للتعامل مع الواقع اليمني الجديد. فقط من خلال الاعتراف بحقيقة انهيار الدولة التقليدية يمكن البدء في التفكير في بدائل واقعية. المستقبل قد لا يحمل عودة إلى الدولة اليمنية الموحدة كما عرفناها، لكنه قد يحمل شيئاً أفضل: نموذجاً جديداً للحكم يحترم التنوع اليمني ويبني على قدرة اليمنيين الاستثنائية على التأقلم والبقاء. والسؤال ليس ما إذا كان اليمنيون قادرين على تجاوز هذه المحنة، بل كيف سيشكلون المستقبل الذي يستحقونه.

آخر الأخبار

عاجل: بنكان في عدن يبدآن صرف مرتبات متراكمة لآلاف الموظفين - العمالقة وثلاث محافظات تستلم أموالها!

عاجل: بنكان في عدن يبدآن صرف مرتبات متراكمة لآلاف الموظفين - العمالقة وثلاث محافظات تستلم أموالها!

فريق التحرير منذ أسبوع
عاجل: أهالي عدن بدون كهرباء 14 ساعة يومياً... والسبب صادم يتعلق بتهريب النفط!

عاجل: أهالي عدن بدون كهرباء 14 ساعة يومياً... والسبب صادم يتعلق بتهريب النفط!

فريق التحرير منذ أسبوع