في لحظة بدت عادية، حين انطفأت شعلة الإمبراطور جستنيان الأول في قصره بالقسطنطينية ليلة الرابع عشر من نوفمبر عام 565 للميلاد، كان هناك في أقاصي الجزيرة العربية رجال يراقبون، ويحسبون، وينتظرون. لم تكن وفاة آخر العظماء في الإمبراطورية الرومانية الشرقية مجرد خبر يتناقله التجار عبر طرق القوافل، بل كان إشارة البدء لأحد أذكى العمليات الاستراتيجية في التاريخ اليمني. فعلى بعد آلاف الأميال من القسطنطينية، كانت عيون الأقيال والأذواء - ما تبقى من القيادات المحلية اليمنية - تترقب هذه اللحظة تحديداً، وكأنهم يعلمون أن موت الرجل الذي نسج خيوط الهيمنة البيزنطية على البحر الأحمر سيكون بداية النهاية للاحتلال الحبشي لبلادهم.
غرفة القرار اليمنية: اللحظة التي تغير فيها كل شيء
تكشف الروايات التاريخية عن شبكة استطلاع متطورة كانت تديرها القيادات اليمنية المحلية لمراقبة التطورات في مراكز القوى العالمية. لم تكن هذه مجرد مراقبة عابرة، بل نظاماً محكماً من المراسلين والتجار والحجاج الذين يحملون المعلومات عبر طرق التجارة المعقدة التي تربط اليمن بالعالم. كانت هذه الشبكة تعمل كجهاز استخبارات مبكر، يرصد أي تغيير في توازن القوى قد يؤثر على الوضع المحلي في اليمن.
وحين وصلت أنباء وفاة جستنيان، لم تكن مفاجأة للأقيال والأذواء، بل كانت اللحظة المنتظرة. فقد كانوا يدركون تماماً أن الدعم البيزنطي للأحباش لم يكن مجرد تحالف عابر، بل كان جزءاً من استراتيجية جستنيان الكبرى لإعادة إحياء المجد الروماني والسيطرة على طرق التجارة العالمية. وكانوا يعلمون أن موت هذا الإمبراطور العبقري سيترك فراغاً استراتيجياً لا يمكن ملؤه بسرعة.
ما يثير الإعجاب في هذه المرحلة هو مستوى التحليل الجيوسياسي الذي أظهرته القيادات اليمنية. لقد فهموا أن جستنيان لم يكن مجرد حاكم آخر، بل كان العقل المدبر لمشروع إمبراطوري واسع يرى في اليمن مفتاحاً لميزان التجارة العالمي ومرتكزاً بحرياً يطوق الطريق الفارسي نحو الهند. وأدركوا أن الفترة الانتقالية التي ستعقب موته ستشهد حتماً تراجعاً في الاهتمام البيزنطي بالشؤون اليمنية، مما يخلق نافذة فرص ضيقة لكنها حاسمة للتحرك.
لم تكن هذه القراءة الاستراتيجية وليدة اللحظة، بل نتاج سنوات طويلة من المراقبة والتحليل. فالقيادات اليمنية كانت تدرس بعناية طبيعة العلاقة المعقدة بين بيزنطة وأكسوم، وتتابع التطورات في السياسة البيزنطية، وترصد أي مؤشرات على تراجع الدعم أو تغيير الأولويات.
فك شيفرة التحالف: كيف قرؤوا خريطة القوى
إن فهم الأقيال والأذواء لطبيعة العلاقة بين بيزنطة ومملكة أكسوم يكشف عن عمق في التحليل الاستراتيجي يضاهي أفضل دوائر الاستخبارات في ذلك العصر. لقد أدركوا أن الدعم البيزنطي للأحباش لم يكن مجرد تحالف ديني كما يروج له الطرفان، بل كان جزءاً من لعبة جيوسياسية معقدة تهدف إلى خنق النفوذ الساساني الفارسي من بوابته البحرية الجنوبية.
كانت القيادات اليمنية تدرك أن القصة الرسمية عن حماية مسيحيي نجران ما هي إلا القشرة الأخلاقية لمشروع سياسي واسع. الهدف الحقيقي كان السيطرة على البحر الأحمر وضمان تدفق التجارة العالمية عبر الموانئ الخاضعة للنفوذ البيزنطي، وليس عبر الطرق التي تسيطر عليها الإمبراطورية الفارسية. وقد فهموا أن اليمن، بموقعها الاستراتيجي على مدخل البحر الأحمر وإشرافها على طرق التجارة نحو الهند، كانت القطعة الأساسية في هذه اللعبة الكبرى.
ما يلفت النظر هو قدرة هذه القيادات على قراءة نقاط الضعف في شبكة التحالفات الدولية. لقد لاحظوا أن الدعم البيزنطي للأحباش كان مشروطاً ومحدوداً، يعتمد على الظروف السياسية في القسطنطينية والتهديدات التي تواجه الإمبراطورية في جبهات أخرى. وكانوا يتابعون بعناية الصراعات البيزنطية مع الفرس، والتمردات في أوروبا، والمشاكل الداخلية في القسطنطينية، مدركين أن كل أزمة في المركز تعني تراجعاً في الاهتمام بالأطراف.
كما فهموا البُعد الاقتصادي والتجاري وراء هذا الصراع. لقد رأوا كيف أن السيطرة على اليمن تعني السيطرة على تجارة البهارات والحرير والذهب والبخور، وهي السلع التي كانت تدر أرباحاً هائلة على من يتحكم في طرقها. وأدركوا أن بيزنطة لم تكن تريد مجرد حماية المسيحيين، بل كانت تريد احتكار هذه التجارة ومنع الفرس من الاستفادة منها.
حساب التوقيت: استراتيجية النافذة الضيقة
تظهر عبقرية التخطيط اليمني في دقة حساب التوقيت. لم تكن القيادات المحلية تنتظر مجرد أي لحظة ضعف في الدعم البيزنطي، بل كانت تبحث عن النافذة الزمنية المثالية التي تجمع بين عدة عوامل: ضعف مؤقت في القيادة البيزنطية، وحاجة الإمبراطورية الجديدة لوقت لإعادة ترتيب الأولويات، وحالة عدم يقين سياسي تجعل دعم الحلفاء البعيدين أمراً ثانوياً.
وقد أثبتت الأحداث صحة هذه الحسابات. فبعد موت جستنيان، انشغلت القسطنطينية بصراعات الخلافة وإعادة ترتيب السياسات الداخلية والخارجية. الإمبراطور الجديد جستن الثاني كان بحاجة لوقت ليفهم التعقيدات الجيوسياسية التي ورثها، وكان عليه أن يتعامل مع تحديات أكثر إلحاحاً في أوروبا والبلقان وآسيا الصغرى.
كما أن الأقيال والأذواء فهموا أن فترة عدم اليقين هذه ستجعل الأحباش أكثر حذراً وأقل استعداداً للمجازفة. فهم كانوا يعتمدون كلياً على الدعم البيزنطي، وأي تراجع في هذا الدعم كان يعني أنهم سيفضلون الدفاع عن مواقعهم الحالية بدلاً من توسيع نفوذهم أو مواجهة تمردات جديدة بقوة.
لقد كان حساب التوقيت هذا يتطلب صبراً استراتيجياً ونظرة بعيدة المدى. فالقيادات اليمنية لم تتعجل في تحركها، بل انتظرت حتى تأكدت من أن الظروف أصبحت مناسبة تماماً. وحين جاءت اللحظة المناسبة، كانوا مستعدين بخطة محكمة وموارد منظمة وتحالفات جاهزة للتفعيل.
تنفيذ الخطة: من القراءة إلى الفعل
تكشف المصادر التاريخية عن آليات معقدة لتعبئة الثورات وإعادة إحيائها بعد عقود من الخمود. لم تكن هذه مجرد ثورات عفوية، بل كانت حركات منظمة تم التحضير لها بعناية. القيادات اليمنية كانت قد حافظت على شبكات التنظيم السرية حتى خلال فترات القمع الحبشي، وكانت تنتظر اللحظة المناسبة لتفعيلها.
ما يلفت النظر هو قدرة هذه القيادات على التنسيق بين مختلف القوى المحلية المتناثرة. فاليمن في ذلك الوقت لم تكن دولة موحدة، بل كانت مجموعة من القبائل والمناطق التي لكل منها مصالحها وتحالفاتها الخاصة. لكن الأقيال والأذواء نجحوا في خلق رؤية موحدة وهدف مشترك: طرد المحتلين الأحباش واستعادة الاستقلال.
كان جزء مهم من الاستراتيجية هو استغلال ضعف الأحباش وتراجع معنوياتهم. فهم كانوا يعلمون أن موت جستنيان وتراجع الدعم البيزنطي سيخلق حالة من عدم اليقين في صفوف القوات الحبشية. وقد استثمروا هذا الضعف النفسي قبل أن يستثمروا الضعف المادي، من خلال حرب نفسية مدروسة تهدف إلى زعزعة ثقة الأحباش بقدرتهم على الصمود دون الدعم الخارجي.
والمثير للإعجاب هو كيف حولت القيادات اليمنية القراءة الاستراتيجية إلى عمل ميداني فعال. لقد ترجموا فهمهم العميق للتطورات الجيوسياسية إلى خطط عملية قابلة للتنفيذ، مع مراعاة القدرات المحدودة والموارد المتاحة. لم يكونوا يحلمون بانتصارات مستحيلة، بل كانوا يسعون لتحقيق أهداف واقعية ومحددة يمكن أن تؤدي تدريجياً إلى تحرير البلاد.
الدروس الخالدة: عبقرية القراءة الجيوسياسية اليمنية
تقدم تجربة الأقيال والأذواء في قراءة موت جستنيان واستثماره استراتيجياً درساً خالداً في أهمية مراقبة التحولات في مراكز القوى العالمية. فهم أثبتوا أن الشعوب الصغيرة والمناطق النائية ليست بالضرورة ضحايا سلبية للتطورات الكبرى، بل يمكنها أن تقرأ هذه التطورات بذكاء وتستثمرها لصالح تحرير نفسها.
كما أن هذه التجربة تؤكد قيمة التوقيت المحسوب في الثورات والتغيير. فليس كل لحظة ضعف في القوى الخارجية تصلح للثورة، بل هناك نوافذ زمنية محددة تكون فيها الظروف مهيأة للنجاح. والحكمة تكمن في القدرة على تمييز هذه النوافذ والاستعداد لها والتحرك فيها بحزم ودقة.
وتبرز أهمية الصبر الاستراتيجي والنظرة بعيدة المدى. فالقيادات اليمنية لم تنجرف وراء الرغبة في العمل الفوري، بل صبرت سنوات طويلة وهي تراقب وتحلل وتخطط، حتى جاءت اللحظة المناسبة. هذا النوع من الصبر المحسوب، المقترن بالاستعداد الدائم للعمل، هو ما يميز القيادة الاستراتيجية الحكيمة.
وأخيراً، تؤكد هذه التجربة أن الذكاء الاستراتيجي لا يقتصر على القوى الكبرى أو الإمبراطوريات العظيمة. فحتى في أطراف العالم البعيدة، وبين القيادات المحلية التي قد تبدو بسيطة، يمكن أن نجد عمقاً في التفكير وحكمة في التخطيط تضاهي أعقد النظريات الاستراتيجية الحديثة. إن الدرس الأهم الذي نتعلمه من قصة الأقيال والأذواء هو أن الحكمة والذكاء الاستراتيجي ليسا حكراً على أحد، وأن التاريخ مليء بالأمثلة على عبقرية خفية ظهرت في أماكن وأوقات لم يتوقعها أحد.
هكذا، تبقى قصة كيف قرأ الأقيال والأذواء موت جستنيان في القسطنطينية وحولوه إلى شرارة لثورات اليمن واحدة من أروع الأمثلة على الذكاء الجيوسياسي في التاريخ. إنها تذكرنا بأن القوة الحقيقية لا تكمن فقط في الجيوش والأساطيل، بل في القدرة على قراءة التحولات وفهم اللحظات التاريخية واستثمارها بحكمة. وتؤكد أن الحرية والاستقلال لا يأتيان بالتمني، بل بالفهم العميق والتخطيط المحكم والصبر الاستراتيجي والتحرك في الوقت المناسب.