في لحظة تاريخية نادرة، تتضافر تقارير من عواصم مختلفة لترسم صورة واحدة عن المشهد اليمني: من منتدى الشرق الأوسط في واشنطن إلى معهد السياسات الأمريكية، وصولاً إلى قاعات شركات الشحن الألمانية - جميعها تؤكد أن اليمن وصل إلى نقطة تحول حاسمة. ليس الأمر مجرد توافق في الآراء، بل إجماع على أن السياسات القديمة لم تعد تصلح، وأن ما كان يُعتبر "إدارة أزمة" تحول إلى مقدمات لكارثة أكبر قد تطال المنطقة بأسرها.
المؤشرات العليا: عندما تتحدث العواصم بصوت واحد
التقارير الثلاثة التي صدرت خلال الأسابيع الماضية لا تحمل فقط تحليلات منفصلة، بل تشكل معاً خريطة طريق واضحة نحو فهم جديد للتحديات اليمنية. عندما يحذر منتدى الشرق الأوسط من "خطورة استمرار سياسة الاحتواء الدولية للحوثيين"، فإنه لا يتحدث عن تهديد محلي، بل عن تحول جذري في معادلات القوة الإقليمية والدولية.
ما يلفت النظر أن هذا التقرير يضع اليمن في سياق أوسع من "عودة صراع القوى الكبرى بأسلوب الحروب بالوكالة المشابه لفترة الحرب الباردة"، وهو تشخيص يتجاوز الحدود الجغرافية اليمنية ليشمل إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية العالمية. السؤال الذي يطرحه التقرير ليس عما إذا كانت الأزمة ستحل، بل "هل يستطيع العالم تحمل كلفة انتصارات الحوثيين القادمة؟"
بالمقابل، يكشف تحليل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى عن جانب آخر من المعادلة: كيف تؤثر هذه التطورات على حلفاء أمريكا الإقليميين. عندما يصف التحليل موقف السعودية بأنها "تجد نفسها في مأزق التعامل مع مليشيا الحوثي"، فإنه يشير إلى تعقيدات تتجاوز المواجهات العسكرية المباشرة لتطال رؤية 2030 وطموحات التنمية الاقتصادية الكبرى.
نقطة الضغط: كيف تؤثر قرارات الممرات التجارية على مستقبل الصراع
موقف شركة "هاباغ لويد" الألمانية يقدم مؤشراً اقتصادياً ملموساً على تأثير الأزمة اليمنية على الاقتصاد العالمي. عندما تعلن إحدى أكبر شركات الشحن في العالم أنها "لن تستأنف رحلاتها عبر البحر الأحمر إلا بعد التأكد من أن المنطقة آمنة تماماً"، فإن هذا القرار يحمل أبعاداً تتجاوز الاعتبارات التشغيلية البحتة.
هذا الموقف الحذر من الشركة الألمانية، رغم تحسن الأوضاع عقب وقف إطلاق النار في غزة، يكشف عن عمق فقدان الثقة في استقرار المنطقة. الرئيس التنفيذي رولف هابن يانسن لم يقل إن الشركة تنتظر تحسناً أمنياً فحسب، بل تنتظر ضمانات بأن هذا التحسن مستدام وقابل للتنبؤ به. هذا النهج الحذر يعكس فهماً عميقاً لطبيعة التهديدات في البحر الأحمر.
اللجوء إلى "مسارات مكلفة حول إفريقيا" ليس مجرد حل مؤقت، بل قد يصبح النمط الجديد في التجارة العالمية إذا استمرت حالة عدم الاستقرار. هذا التحول في طرق التجارة العالمية يحمل تكاليف اقتصادية باهظة لا تقتصر على شركات الشحن، بل تمتد لتشمل أسعار السلع والخدمات على مستوى العالم، مما يجعل من الأزمة اليمنية قضية اقتصادية عالمية وليس مجرد صراع إقليمي.
التأثير اليومي: من غرف المؤتمرات إلى الشارع اليمني
وراء هذه التقارير الدولية والقرارات التجارية، يعيش المواطن اليمني العادي تداعيات "سياسات الاحتواء" على شكل ارتفاع في أسعار المواد الأساسية وتعطل في سلاسل الإمداد. في حضرموت، يشكو تجار المواد الغذائية من تضاعف تكاليف الاستيراد بسبب إجبار السفن على سلوك طرق أطول وأكثر تكلفة. في عدن، تنتظر حاويات المساعدات الإنسانية أسابيع إضافية للوصول، بينما في صنعاء، تتراكم أزمات الوقود بسبب تعقيدات الشحن الجديدة.
هذا التأثير المتسلسل يكشف كيف تترجم القرارات السياسية الكبرى إلى معاناة يومية ملموسة. عندما تقرر شركة شحن ألمانية تجنب البحر الأحمر، فإن هذا القرار يصل صداه إلى مائدة الإفطار في قرية نائية في تعز، حيث ترتفع أسعار الدقيق والأرز. هذا الترابط المعقد بين السياسة الدولية والحياة اليومية يجعل من فهم الأزمة اليمنية ضرورة لا تقتصر على المختصين.
الأمر لا يتوقف عند التأثير الاقتصادي المباشر، بل يمتد ليشمل البنية الاجتماعية. في المناطق الحدودية مع السعودية، تأثرت حركة العمالة اليومية بسبب تشديد الإجراءات الأمنية، بينما في الموانئ اليمنية، يواجه آلاف العمال انخفاضاً في فرص العمل نتيجة تراجع حركة الشحن. هذه التداعيات الاجتماعية والاقتصادية تخلق ضغوطاً إضافية على النسيج المجتمعي اليمني المتهالك أصلاً.
الانقسامات الداخلية: المرآة المحلية للتعقيدات الدولية
الانقسامات في مجلس القيادة الرئاسي التي يشير إليها تقرير منتدى الشرق الأوسط ليست مجرد خلافات سياسية داخلية، بل انعكاس مباشر لتعقيدات السياسة الدولية تجاه اليمن. هذه الانقسامات تكشف عن عجز في صياغة رؤية موحدة للمستقبل، وهو ما يجعل من أي استراتيجية دولية للتعامل مع الأزمة أكثر صعوبة في التنفيذ.
عندما تفتقر القيادة اليمنية المعترف بها دولياً إلى التماسك الداخلي، فإن هذا يضع حلفاءها الدوليين في موقف صعب. كيف يمكن للسعودية أن تضع ترتيبات أمنية طويلة المدى مع طرف منقسم؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد على شريك يعاني من تناقضات داخلية؟ هذه التساؤلات تفسر جزئياً لماذا تميل السياسات الدولية نحو "الاحتواء" بدلاً من الحلول الجذرية.
الأمر يصبح أكثر تعقيداً عندما ندرك أن هذه الانقسامات لا تقتصر على النخب السياسية، بل تمتد لتشمل التركيبة القبلية والاجتماعية. في مأرب، تختلف القبائل حول مستوى التعاون مع مجلس القيادة، بينما في شبوة، تتفاوت المواقف من الدعم الخليجي. هذا التنوع في المواقف يعكس عمق التحديات التي تواجه أي محاولة لإعادة بناء الدولة اليمنية على أسس موحدة ومستقرة.
السيناريوهات المحتملة: قراءة في خريطة المستقبل القريب
إذا استمرت "سياسات الاحتواء" كما يحذر تقرير منتدى الشرق الأوسط، فإن السيناريو الأكثر احتمالاً هو تحول الحوثيين من "جماعة محلية إلى قوة عابرة للحدود" كما نص التقرير. هذا التحول لا يعني فقط تعزيز قدراتهم العسكرية، بل قد يشمل أيضاً تطوير شبكات نفوذ إقليمية تتجاوز الحدود اليمنية، مما يجعل من احتوائهم مستقبلاً مهمة أكثر تعقيداً وتكلفة.
بالمقابل، يفتح تحليل معهد واشنطن الباب أمام سيناريو مختلف: إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية من خلال "ترتيبات أوسع مع واشنطن" كما يشير التحليل. هذا السيناريو قد يتضمن تعزيز الضمانات الأمنية للسعودية مقابل دور أكبر في احتواء التهديد الحوثي، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير جذري في طبيعة التحالفات الإقليمية.
السيناريو الثالث المحتمل يرتبط بموقف شركات الشحن العالمية: إذا استمر تجنب البحر الأحمر، فقد يؤدي ذلك إلى إعادة تشكيل خريطة التجارة العالمية بصورة دائمة. هذا التحول قد يدفع القوى الدولية إلى البحث عن حلول جذرية أكثر للأزمة اليمنية، لأن التكلفة الاقتصادية طويلة المدى لتجنب البحر الأحمر قد تفوق تكلفة التدخل لحل الأزمة. من هذا المنظور، قد تصبح الأزمة اليمنية أولوية اقتصادية عالمية وليس مجرد قضية أمنية إقليمية.
الخلاصة: التحضير لما هو قادم
العلامات المبكرة التي ترسمها التقارير الثلاثة تشير إلى أن اليمن يقف على أعتاب مرحلة جديدة تتطلب إعادة تفكير جذرية في السياسات المتبعة. التحذير من "خطورة استمرار سياسة الاحتواء" ليس مجرد تحليل أكاديمي، بل دعوة عاجلة لتغيير النهج قبل أن تصبح التكاليف أكبر مما يمكن تحمله.
التوصيات العملية للتعامل مع هذه التحولات تبدأ بفهم أن الأزمة اليمنية لم تعد قضية محلية أو حتى إقليمية، بل قضية عالمية تتطلب تنسيقاً دولياً على مستوى لم يشهده اليمن من قبل. هذا التنسيق يجب أن يشمل ليس فقط الأبعاد الأمنية، بل أيضاً الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية.
رسالة الأمل الحذر تكمن في أن هذا التضافر في التقارير الدولية قد يشكل بداية لإجماع دولي جديد حول ضرورة تجاوز سياسات "إدارة الأزمة" نحو استراتيجيات "حل الأزمة". عندما تتفق تقارير من واشنطن ومواقف من برلين على خطورة الوضع الراهن، فإن هذا قد يكون المؤشر الذي تحتاجه الجهود الدولية للانتقال من مرحلة الاحتواء إلى مرحلة البناء. التحدي الآن هو كيفية تحويل هذا الإجماع التحليلي إلى عمل منسق يمكن أن يحقق الاستقرار المستدام الذي يحتاجه اليمن ويستحقه شعبه.
في النهاية، قد تكون هذه اللحظة التي تتحدث فيها العواصم المختلفة بصوت واحد حول اليمن هي الفرصة الأخيرة لتجنب سيناريوهات أكثر تعقيداً وتكلفة. الأمل الحذر يكمن في أن الدروس المستفادة من التقارير الثلاثة ستترجم إلى سياسات عملية تضع اليمن على طريق الاستقرار والتنمية، بدلاً من الانزلاق نحو مزيد من التعقيدات التي قد تطال المنطقة بأسرها.