في فجر يوم جمعة عادي في منطقة الكود بمديرية خنفر، استيقظ المزارعون على مشهد مرعب: ألسنة لهب تتصاعد من مزارعهم، تلتهم أشجار الموز وتهدد مصدر رزق مئات الأسر. لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن مجرد قصة كارثة أخرى في اليمن، بل نموذج استثنائي للصمود والتكاتف الشعبي الذي يجسد أصالة الروح اليمنية في مواجهة المحن.
لحظة الحقيقة: عندما واجه مزارعو أبين النار بأيديهم العارية
عندما اندلعت النيران في مزارع الموز بمنطقة الكود، وانتشرت بسرعة مخيفة بفعل الرياح القوية وجفاف مخلفات الأشجار، وقف الأهالي أمام خيارين: إما انتظار معدات إطفاء لن تأتي، أو المبادرة بأنفسهم لحماية أرزاقهم وأحلامهم. اختاروا المواجهة.
هذه اللحظة الحاسمة كشفت عن معدن حقيقي للمجتمع اليمني. فبدلاً من الاستسلام لغياب سيارات الإطفاء التي تفتقر إليها محافظة أبين على عكس بقية المحافظات، تحرك المواطنون تلقائياً في مشهد يعكس عمق التماسك الاجتماعي الذي تتميز به المجتمعات الريفية اليمنية.
كان القرار الجماعي واضحاً: لن نترك النار تأكل أحلامنا. وهكذا بدأت ملحمة حقيقية من التضامن والشجاعة، حيث هرع المزارعون والأهالي من كل حدب وصوب، حاملين معهم كل ما استطاعوا من أدوات بدائية وإرادة صلبة لمقاومة اللهب المدمر.
الأدوات البدائية، الإرادة العظيمة: كيف نظم الأهالي أنفسهم
ما يثير الإعجاب في هذه التجربة هو الطريقة التي نظم بها المجتمع المحلي نفسه تلقائياً دون أي تنسيق مسبق. فقد تشكلت فرق إطفاء شعبية بطريقة عفوية، كل منها تحمل مسؤولية محددة: فريق لجلب المياه، وآخر لإزالة المواد القابلة للاشتعال، وثالث لمراقبة اتجاه الرياح ومنع انتشار النار لمناطق جديدة.
استخدم الأهالي كل ما هو متاح: الدلاء والخراطيم البسيطة، والرمال والتراب، وحتى الأغصان الخضراء لضرب ألسنة اللهب الصغيرة. كانت معركة حقيقية ضد الوقت، حيث كل دقيقة تأخير تعني فقدان مساحات أكبر من المزارع التي تمثل شريان الحياة لهذه المنطقة.
لكن الأهم من الأدوات كان روح التعاون التي ظهرت بشكل استثنائي. نساء يحضرن الطعام والشراب للمتطوعين، أطفال يساعدون في نقل المعدات البسيطة، وكبار السن يوجهون الجهود بناءً على خبرتهم في التعامل مع حرائق مشابهة. كان مشهداً يجسد أجمل ما في الطبيعة الإنسانية اليمنية.
ولعل أكثر ما يلفت النظر هو الحكمة المحلية التي ظهرت في توزيع المهام. فالمزارعون الذين يعرفون تضاريس المنطقة جيداً تولوا قيادة فرق الإطفاء إلى النقاط الأكثر خطورة، بينما الشباب الأقوى بدنياً تحملوا مهمة حمل المعدات الثقيلة والعمل في الخطوط الأمامية للمواجهة مع النار.
النتائج تتحدث: السيطرة الجزئية كانتصار بحد ذاتها
بعد ساعات من العمل المضني والجهود المتواصلة، تمكن الأهالي من تحقيق شيء كان يبدو مستحيلاً في البداية: السيطرة الجزئية على الحريق ومنع امتداده لمزارع أخرى. هذا الإنجاز، رغم بساطته الظاهرة، يحمل دلالات عميقة على قدرة المجتمع اليمني على مواجهة أصعب التحديات.
الأهم من النجاح في إخماد النار كان عدم تسجيل أي خسائر بشرية، وهو ما يعكس مستوى التنظيم والحذر الذي تعامل به الأهالي مع هذه المهمة الخطيرة. كان بإمكان الوضع أن يتطور إلى كارثة حقيقية لولا التدخل السريع والمنظم للمجتمع المحلي.
ولو نظرنا إلى ما كان يمكن أن يحدث في حالة عدم تدخل الأهالي، لأدركنا حجم الإنجاز الحقيقي. فالنار كانت تنتشر بسرعة مخيفة بفعل الرياح وجفاف المخلفات الزراعية، وكانت ستلتهم مساحات واسعة من مزارع الموز التي تعتبر المصدر الرئيسي للدخل في هذه المنطقة.
التجربة أظهرت أيضاً أن الحلول المحلية، رغم بساطتها، يمكن أن تكون فعالة جداً عندما تقترن بالتنظيم الجيد والعمل الجماعي. فما نقص في المعدات تم تعويضه بالإرادة والتضامن، وما افتقر إليه المجتمع من دعم رسمي عوضه بالاعتماد على الذات والتكاتف الشعبي.
ما وراء النار: دروس في الصمود يمكن تطبيقها في كل مكان
هذه التجربة في منطقة الكود تحمل دروساً قيمة يمكن للمجتمعات الأخرى الاستفادة منها. الدرس الأول هو أن التنظيم التلقائي ممكن حتى في أصعب الظروف، عندما تتوفر الإرادة الجماعية والشعور بالمسؤولية المشتركة. فالأهالي لم ينتظروا تعليمات من أحد، بل بادروا بتشكيل فرق العمل وتوزيع المهام بناءً على الخبرة المحلية والحس العملي.
الدرس الثاني يتعلق بأهمية المعرفة المحلية في مواجهة الأزمات. فالمزارعون الذين عاشوا في هذه المنطقة لسنوات طويلة، ويعرفون طبيعة التربة واتجاه الرياح ومواسم الجفاف، كانوا الأقدر على اتخاذ القرارات الصحيحة في اللحظات الحرجة. هذا يؤكد على ضرورة احترام الخبرة الشعبية وإشراك المجتمعات المحلية في خطط مواجهة الكوارث.
الدرس الثالث يرتبط بالتراث الثقافي اليمني في التكافل والتضامن. فما حدث في الكود لم يكن مجرد استجابة عفوية لحالة طارئة، بل تطبيق عملي لقيم راسخة في المجتمع اليمني، قيم تؤكد على أن المسؤولية جماعية وأن نجاة الجميع مرتبطة بجهد الجميع.
يمكن لهذه المبادئ أن تُطبق في مجتمعات أخرى تواجه تحديات مشابهة، من خلال تطوير آليات بسيطة للاستجابة السريعة، وتدريب المجتمعات المحلية على التعامل مع الأزمات، واحترام المعرفة التقليدية وتوظيفها في الحلول العملية. الأهم من ذلك كله هو تعزيز روح التضامن والمسؤولية الجماعية التي تمثل أقوى سلاح في مواجهة المحن.
البذور في الرماد: كيف تصبح الأزمة فرصة للبناء
رغم الألم والخسائر التي خلفها الحريق، فإن هذه التجربة تحمل بذور أمل حقيقي للمستقبل. فما أظهره مجتمع الكود من قدرة على التنظيم والتعاون يمكن أن يصبح نموذجاً يُحتذى به في مواجهة تحديات أخرى، ليس فقط في مجال مكافحة الحرائق، بل في كل جوانب التنمية المجتمعية.
يمكن البناء على هذه التجربة من خلال تطوير خطط وقائية بسيطة تعتمد على الإمكانيات المحلية، مثل إنشاء نقاط تجميع للمياه في مواقع استراتيجية، وتنظيم دورات تدريبية بسيطة للأهالي حول طرق مكافحة الحرائق، وتخصيص مناطق آمنة لحرق المخلفات الزراعية بطريقة مدروسة تتجنب المخاطر.
كما يمكن لهذه التجربة أن تلهم مبادرات مجتمعية أوسع في مجالات أخرى مثل التعليم والصحة والتنمية الاقتصادية، حيث يثبت مزارعو أبين أن الحلول الذاتية ممكنة ومؤثرة عندما تقترن بالإرادة الصادقة والعمل الجماعي المنظم.
الدعوة اليوم موجهة لكل من يؤمن بقدرة الإنسان اليمني على التجاوز والبناء، أن يساهم في دعم مثل هذه المجتمعات، ليس بالشفقة أو الإحسان، بل بالشراكة الحقيقية في تطوير قدراتها وتعزيز إمكانياتها الذاتية للنمو والتطور.
إن ما حدث في منطقة الكود ليس مجرد قصة نجاح محلية، بل رسالة أمل لليمن كله، رسالة تقول أن الشعب اليمني، رغم كل المحن والتحديات، لا يزال يحتفظ بقيمه الأصيلة وقدرته على التكاتف والصمود. وأن البذور الطيبة في هذه الأرض المباركة، مهما احترقت ظاهرياً، تبقى قادرة على النمو والإثمار من جديد.
في نهاية المطاف، حرائق أبين لم تكن مجرد كارثة طبيعية، بل اختبار حقيقي أظهر أن الروح اليمنية الأصيلة لا تُهزم. وأن الصمود ليس مجرد كلمة تُردد في الخطابات، بل ممارسة يومية يجسدها الناس البسطاء في لحظات المحنة الحقيقية، عندما يختارون المواجهة بدلاً من الاستسلام، والتعاون بدلاً من الانكفاء، والأمل بدلاً من اليأس.