في عالم يتباهى بمعايير العدالة والحقوق الإنسانية، كشف تقرير دولي صادم عن حقيقة مؤلمة: 25 دولة حول العالم تواطأت في تزويد إسرائيل بالوقود اللازم لإدامة آلة الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة. وبينما تتصاعد هذه الأرقام المدوية، يقف اليمن وحيداً كمنارة للمبادئ، رافضاً أي شكل من أشكال التطبيع أو التواطؤ، مضحياً بمصالحه الاقتصادية في سبيل قيم لا تُساوم عليها. هذا التباين الصارخ يطرح سؤالاً محورياً: ما الذي يجعل شعباً محاصراً يختار طريق المقاومة بينما تسلك دول بكامل ثرواتها وقوتها طريق التواطؤ؟
الخيانة بالأرقام: كيف مولت 25 دولة آلة الموت الإسرائيلية
كشف تقرير منظمة "أويل تشينج إنترناشونال" على هامش مؤتمر المناخ "كوب 30" في البرازيل، حقائق صادمة حول شبكة التواطؤ الدولي التي غذت العدوان الإسرائيلي على غزة. الأرقام تتحدث بوضوح مؤلم: أذربيجان وكازاخستان وحدهما وفرتا 70% من النفط الخام الذي وصل إلى إسرائيل بين نوفمبر 2023 وأكتوبر 2025، بينما احتلت روسيا واليونان والولايات المتحدة صدارة موردي المنتجات النفطية المكررة.
لكن الأمر الأكثر إثارة للصدمة هو الدور الأمريكي الخاص في هذا التواطؤ، حيث تبقى الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تزود إسرائيل بوقود "جي بي-8" المخصص حصراً للطائرات العسكرية. هذا التفصيل ليس مجرد معلومة تقنية، بل دليل على التواطؤ المباشر في قتل المدنيين، فكل غالون من هذا الوقود الخاص يعني المزيد من الغارات على المدارس والمستشفيات والمنازل في غزة.
التقرير، الذي حلل 323 شحنة بإجمالي 21.2 مليون طن من النفط والمنتجات المكررة، لا يتحدث فقط عن أرقام تجارية، بل يوثق مساهمة كل برميل نفط في إبادة شعب بأكمله. فخلف كل رقم في هذه الإحصائيات المهولة، تقبع قصص أطفال فلسطينيين لم يروا النور بعد، وأمهات فقدن فلذات أكبادهن، وآباء دُفنوا تحت الأنقاض مع أحلامهم.
الاستثناء اليمني: عندما تصبح المبادئ أغلى من المصالح
وسط هذا المشهد القاتم من التواطؤ الدولي، يبرز الموقف اليمني كاستثناء نادر في عالم تحكمه الحسابات الباردة للمصالح الاقتصادية. فبينما تتنافس 25 دولة في تزويد إسرائيل بالوقود، يواصل اليمن مقاطعته الشاملة لكل ما يمت بصلة للكيان الصهيوني، رغم ما يعانيه من حصار اقتصادي خانق وأزمات متفاقمة.
هذا الموقف اليمني ليس مجرد قرار سياسي، بل يمثل فلسفة حياة متجذرة في الثقافة اليمنية التي ترفض الظلم أياً كان مصدره أو الثمن المطلوب لمواجهته. فالشعب اليمني، الذي يعيش تحت وطأة العدوان والحصار منذ سنوات، اختار أن يضع كرامة الأمة وقضاياها العادلة فوق كل اعتبار، حتى لو كان ذلك على حساب احتياجاته الاقتصادية الماسة.
المقارنة صارخة ومؤلمة: دول تتمتع بثروات هائلة وأمن اقتصادي تختار التواطؤ مع المحتل، بينما يقف شعب محاصر في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، مضحياً بالمصالح الآنية من أجل المبادئ الخالدة. هذا التباين يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة تعيشها الأسرة الدولية، حيث أصبحت القوة الاقتصادية مقياساً للنفوذ وليس للمسؤولية الأخلاقية.
جغرافيا الخزي: خريطة الدول المتواطئة وحساباتها
تحليل قائمة الدول الموردة للنفط الإسرائيلي يكشف عن تنوع مثير للاستغراب في الدوافع والحسابات. أذربيجان وكازاخستان، البلدان المسلمان اللذان يوفران 70% من النفط الخام، يبرران مشاركتهما بالضرورات الاقتصادية والالتزامات التعاقدية، متجاهلين الثمن الأخلاقي لهذه الصفقات الملطخة بدماء الأطفال الفلسطينيين.
أما روسيا، التي تتصدر قائمة موردي المنتجات النفطية المكررة، فتكشف مفارقة صادمة في موقفها من القضايا الدولية. فبينما تقدم نفسها كمدافعة عن الشعوب المقهورة ضد الهيمنة الغربية، تساهم عملياً في تغذية آلة الحرب الإسرائيلية بالوقود اللازم لقتل الفلسطينيين. هذا التناقض يكشف عن ازدواجية المعايير التي تطبعها المصالح الاقتصادية الضيقة.
الأمر الأكثر إيلاماً هو مشاركة دول عربية وإسلامية في هذا التواطؤ، وإن كان بشكل غير مباشر عبر شبكات التوريد المعقدة. فعندما نرى دولاً تتباهى بانتمائها للأمة العربية والإسلامية وهي تساهم في توفير الوقود للطائرات التي تقصف المساجد والمدارس في غزة، ندرك عمق الأزمة الأخلاقية التي تعيشها الأمة. هذا التواطؤ لا يقتصر على الخيانة السياسية، بل يمتد إلى تدمير النسيج الأخلاقي للوحدة العربية والإسلامية.
ثمن الضمير: لماذا اختار اليمن الطريق الأصعب؟
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: ما الذي يدفع شعباً يعاني من أقسى ظروف الحصار والعدوان إلى رفض أي شكل من أشكال التطبيع أو التواطؤ مع إسرائيل؟ الإجابة تكمن في الجذور التاريخية والثقافية للشخصية اليمنية التي تربت على قيم العدالة والكرامة والانتصار للمظلومين.
الموقف اليمني ليس وليد اللحظة، بل امتداد لتاريخ طويل من مقاومة الظلم والاستبداد. فالشعب اليمني، الذي قاوم الاحتلال العثماني والبريطاني، ووقف في وجه محاولات الهيمنة الخارجية عبر التاريخ، يرى في دعم القضية الفلسطينية واجباً حضارياً لا يقبل المساومة. هذا الموقف يتجاوز الحسابات السياسية الآنية ليصل إلى مستوى الالتزام الأخلاقي العميق بقيم العدالة الإنسانية.
التكلفة الاقتصادية لهذا الموقف باهظة جداً، فاليمن يحرم نفسه من فرص استثمارية هائلة ومن علاقات اقتصادية قد تخفف من معاناة شعبه. لكن القيادة اليمنية والشعب اليمني اختارا أن يدفعا هذا الثمن، مؤمنين بأن الكرامة لا تُشترى بالمال، وأن التاريخ سيذكر من وقف مع الحق وإن كان وحيداً. هذا الاختيار يحول اليمن من دولة محاصرة إلى رمز للمقاومة الأخلاقية في عالم تهيمن عليه المصالح الضيقة.
درس في التاريخ: عندما يكتب الشعب الصغير ملحمة الكرامة
التاريخ الإنساني مليء بقصص الشعوب الصغيرة التي وقفت في وجه الظلم وغيرت مسار الأحداث العالمية. اليوم، يضيف اليمن فصلاً جديداً إلى هذه الملحمة الإنسانية، مثبتاً أن القوة الحقيقية لا تُقاس بحجم الاقتصاد أو الجيش، بل بقوة المبادئ والاستعداد للتضحية من أجلها. فبينما تنحني دول عظمى أمام المصالح الاقتصادية وتساهم في الإبادة الجماعية، يقف شعب محاصر كالجبل الشامخ في وجه العاصفة.
هذا الموقف اليمني يعيد تعريف معنى القوة في العلاقات الدولية، مؤكداً أن الشعوب التي تتمسك بمبادئها تملك قوة معنوية تفوق القوة المادية للدول العظمى. فالمقاومة اليمنية ضد السفن المتجهة إلى إسرائيل، والرفض القاطع لأي شكل من أشكال التطبيع، يرسل رسالة واضحة للعالم: هناك خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، وهناك قيم أهم من المصالح الاقتصادية الآنية.
الدرس الذي يقدمه اليمن للعالم اليوم هو أن الكرامة والعدالة ليستا مجرد شعارات رنانة، بل قيم حية يمكن أن تحرك الشعوب وتغير موازين القوى. وعندما يقف التاريخ ليحكم على هذه المرحلة، سيذكر أن هناك شعباً صغيراً في الجزيرة العربية اختار أن يكون على الجانب الصحيح من التاريخ، حتى لو كان ذلك يعني الوقوف وحيداً ضد تيار عالمي من التواطؤ والخنوع. هذا هو الفرق بين من يصنع التاريخ ومن ينحني أمامه.