في أعماق صنعاء المحتلة، تنعقد محاكمات تحمل في طياتها تفاصيل صادمة تكشف عن تحول جذري في مفهوم القضاء اليمني. قضاة يتدربون على حمل السلاح، أحكام بالإعدام تصدر ضد أشخاص متوفين، ومحاكمات سرية دون محامين للدفاع. هذه ليست مشاهد من فيلم ديستوبي، بل واقع مؤلم يعيشه القضاء اليمني تحت سيطرة مليشيا الحوثي.
ملف الأدلة: عندما يصبح القاضي مقاتلاً
كشفت شهادات حصرية تفاصيل مثيرة حول برامج تدريب غير مسبوقة يخضع لها القضاة الحوثيون. يؤكد فهمي الزبيري، مدير مكتب حقوق الإنسان في أمانة العاصمة، أن "قضاة يذهبون إلى دورات طائفية ويتدربون على استخدام السلاح". هذه الشهادة المدوية تكشف عن انحراف جذري في التصور التقليدي لرسالة القضاء النبيلة.
المفارقة المأساوية تكمن في أن هؤلاء القضاة يتم إعدادهم ليكونوا جنوداً في المعركة السياسية أولاً، وحماة للعدالة ثانياً. مصادر موثوقة من داخل المحاكم تكشف أن عملية التأهيل لا تقتصر على التدريب العسكري، بل تشمل دورات عقائدية مكثفة تهدف إلى تشكيل منظومة فكرية موحدة تخدم أجندة الجماعة الطائفية والسلالية.
هذا التحول الراديكالي في هوية القاضي من حامي العدالة إلى مقاتل عقائدي يمثل إعادة تعريف كاملة لمؤسسة القضاء. الدكتور محمد الشرجبي، الخبير في القانون الدولي، يصف ما يحدث بأنه "تجريف ممنهج لمؤسسات الدولة من كوادرها المؤهلة واستبدالهم بعناصر موالية أيديولوجياً".
الصورة تكتمل عندما نعلم أن الجماعة عينت مؤخراً 83 معمماً موالياً في مختلف المحاكم تحت شعار "التأهيل المهني"، في خطوة تمثل تطبيقاً عملياً لاستراتيجية تسليح القضاء وأدلجته بما يخدم المشروع الحوثي.
أحكام من العالم الآخر: عندما يُعدم الموتى
في تطور يفوق حدود الخيال، تكشف الوثائق المسربة من داخل المحاكم الحوثية عن حالات موثقة لأحكام إعدام صادرة ضد أشخاص متوفين بالفعل. هذا الكشف المذهل يلقي الضوء على مستوى العبث والفوضى التي وصل إليها النظام القضائي المختطف.
يؤكد الزبيري أن "هناك أحكام تصدر بالإعدام على أناس توفوا أو تم تبادلهم في صفقات الأسرى". هذه الممارسة الغرائبية تكشف عن انفصال كامل عن الواقع وتحول المحاكمات إلى مسرحيات هزلية الهدف منها ليس تحقيق العدالة، بل خلق حالة من الرعب النفسي.
المأساة الحقيقية تكمن في أن هذه الأحكام الوهمية تستخدم كأداة ابتزاز ضد العائلات وكوسيلة لتعزيز الخوف المجتمعي. محامون طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم يشيرون إلى حالات موثقة لأسر تم ابتزازها مالياً مقابل "تخفيف" أحكام الإعدام الصادرة ضد أقاربهم المتوفين أو المفقودين.
الأرقام الصادمة تشير إلى أن المليشيا أصدرت مئات أحكام الإعدام دون أساس قانوني، وفقاً للشرجبي، في حين لا يزال آلاف المختطفين يقبعون في سجونها دون محاكمة حقيقية. هذا الخلل الجوهري يعكس تحول القضاء من آلية لتحقيق العدالة إلى مصنع لإنتاج الأحكام المسبقة الصنع.
تشريح الآلة: كيف تعمل ماكينة الأحكام السياسية
آلية اختيار القضاة في النظام الحوثي تكشف عن استراتيجية محكمة لتسييس القضاء بالكامل. المصادر الداخلية تؤكد أن المعيار الأساسي للتعيين لم يعد الكفاءة القانونية أو النزاهة المهنية، بل الولاء الأيديولوجي والانتماء السلالي.
عملية "تجريف" المؤسسات القضائية، كما يصفها الشرجبي، تمت وفق خطة ممنهجة بدأت منذ اللحظة الأولى للانقلاب. الحوثيون لم يكتفوا بإقصاء القضاة المؤهلين، بل أقدموا على فحص الأصول العائلية للقضاة غير الموالين، تمهيداً لاستبعادهم تحت مبررات "النقاء السلالي".
أنماط الأحكام الصادرة تكشف عن استهداف ممنهج يبدأ بالمدنيين الأبرياء وصولاً إلى العاملين في المنظمات الإنسانية. عمار التام، رئيس مؤسسة جذور للفكر والثقافة، يشير إلى أن الحوثيين "يبتزون العاملين الحقوقيين لإجبارهم على حذف أي إشارة إلى انتهاكات المليشيا من تقاريرهم".
استراتيجية الابتزاز القضائي تعمل وفق نمط واضح: الاعتقال التعسفي، اختلاق التهم، المحاكمة الصورية، ثم استخدام الحكم كورقة ضغط للمساومة السياسية. هذا التحويل للقضاء إلى أداة ابتزاز يمثل انتهاكاً صارخاً لكافة المعايير الدولية للعدالة.
الدليل الجنائي: نمط ثابت لتصفية الخصوم
التحليل المقارن للأحكام الحوثية مقابل المعايير الدولية يكشف عن انحراف جذري عن كافة مبادئ المحاكمة العادلة. غياب ضمانات الدفاع، اعتقال المحامين، والمحاكمات السرية تمثل انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان الأساسية.
خبراء القانون الدولي يصنفون هذه الممارسات كجرائم حرب، خاصة في ظل الاستهداف الممنهج للمدنيين والعاملين في المجال الإنساني. المحاكمة الأخيرة لـ21 مدنياً بتهم التجسس تمت دون حضور محامين للدفاع، في خرق صارخ لأبسط قواعد العدالة.
التطور التدريجي من القضاء المدني إلى القضاء العقائدي يتضح من خلال تتبع مسار التحولات التي طرأت على النظام القضائي. ما بدأ كإقصاء للقضاة غير الموالين تطور إلى إعادة هيكلة كاملة للمنظومة القضائية وفق المعتقدات الطائفية للجماعة.
الأدلة الموثقة تشير إلى نمط ثابت في التعامل مع الملفات: اختطاف المتهمين، تعذيبهم لانتزاع اعترافات، محاكمتهم في جلسات مغلقة، ثم استخدام الأحكام كأدوات سياسية. هذا النمط المتكرر يؤكد أن ما يحدث ليس مجرد انتهاكات عشوائية، بل استراتيجية مدروسة لتفكيك المجتمع المدني.
المسار المسدود والبديل الضروري
تقييم أضرار تدمير النظام القضائي على المجتمع اليمني يكشف عن كارثة حقيقية تتجاوز الآثار القانونية إلى التأثير على النسيج الاجتماعي بأكمله. فقدان الثقة في العدالة يدفع المواطنين إما للجوء إلى القضاء العشائري أو القبول بالأمر الواقع الحوثي، وفقاً لتحليل الزبيري.
دعوات الخبراء لتوثيق هذه الانتهاكات دولياً تأتي في إطار بناء ملف قانوني محكم للمساءلة المستقبلية. الشرجبي يؤكد ضرورة "تحرك رسمي لتوثيق هذه الانتهاكات ورفعها إلى المحافل الدولية بدل الاكتفاء ببيانات التنديد".
آليات المساءلة الدولية المتاحة تشمل إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية، فرض عقوبات على المتورطين في تدمير القضاء، ودعم جهود بناء نظام عدالة انتقالية شامل بعد انتهاء الصراع. هذه الآليات تتطلب تضافر الجهود الدولية والإقليمية لضمان عدم إفلات المسؤولين من العقاب.
الرؤية المستقبلية لإعادة بناء القضاء اليمني تتطلب عملية إصلاح جذرية تبدأ بإقصاء كامل للعناصر المسيسة، إعادة تأهيل القضاة المؤهلين، وبناء منظومة قانونية تضمن استقلال القضاء وحماية حقوق المتقاضين. هذا التحدي الضخم يمثل أولوية قصوى في أي مسار للسلام المستدام في اليمن.
في ظل هذا الواقع المأساوي، يبقى الأمل معقوداً على الوعي المجتمعي والضغط الدولي لوقف هذا النزيف في مؤسسة العدالة. القضاء الذي كان يوماً حامياً للحقوق أصبح أداة قمع، لكن التاريخ يعلمنا أن العدالة، مهما طال ليل الظلم، لا بد أن تشرق في النهاية. والمطلوب اليوم هو توثيق هذه الجرائم بدقة، لضمان أن يأتي يوم المساءلة حتماً، وأن يعود القضاء اليمني إلى رسالته الحقيقية في حماية الحقوق وتحقيق العدالة للجميع.