في قاعات الاجتماعات الدبلوماسية الهادئة بالعاصمة السعودية الرياض، لا يبدو اللقاء بين رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي والقائم بأعمال السفارة الصينية مجرد بروتوكول دبلوماسي اعتيادي. فخلف العبارات الرسمية المهذبة حول "تعزيز التعاون" و"العلاقات التاريخية"، تتشكل معادلة استراتيجية جديدة قد تغير وجه المنطقة كلياً. السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت هذه الخطوة ذكية، بل كيف نجح اليمن في تحويل أزمته الأعمق - أزمة البحر الأحمر - إلى مفتاح دخوله كشريك استراتيجي في أحد أهم التحالفات الاقتصادية العالمية؟
المشكلة: كيف حولت أزمة البحر الأحمر اليمن إلى بؤرة اهتمام عالمي؟
لفترة طويلة، ظل اليمن محاصراً في دائرة مفرغة من العنف والتدهور الاقتصادي، بينما تركزت الجهود الدولية على محاولات وقف إطلاق النار دون معالجة الجذور الهيكلية للصراع. لكن تصاعد هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية في البحر الأحمر غير هذه المعادلة جذرياً، محولاً اليمن من "مشكلة إقليمية" إلى ملف أمني عالمي عاجل يتطلب شراكات دولية فعالة وليس مجرد تدخلات إنسانية.
الأرقام تتحدث بوضوح عن حجم التحدي وحجم الفرصة في آن واحد. حركة السفن في البحر الأحمر تراجعت بنسبة 56% عن مستوياتها الطبيعية في عام 2023، مما يعني خسائر تقدر بمليارات الدولارات في التجارة العالمية يومياً. وبحسب تقرير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الدولي، تتصاعد شبكات تهريب الأسلحة إلى الحوثيين عبر البحر الأحمر والقرن الأفريقي، مما يعني أن التهديد لن يتوقف عند حدود الملاحة التجارية.
لكن الأهم من الأرقام هو التحول في طبيعة التحدي نفسه. لم تعد القضية اليمنية مجرد صراع داخلي بحاجة إلى وساطة دولية، بل أصبحت قضية أمن بحري دولي تتطلب شراكة استراتيجية طويلة المدى. هذا التحول وضع اليمن، ولأول مرة منذ سنوات، في موقع القوة التفاوضية، حيث يملك ما تحتاجه القوى العالمية: السيطرة على أحد أهم الممرات المائية في العالم.
الموقع الجغرافي الاستثنائي لليمن كبوابة جنوبية للبحر الأحمر ومدخل للمحيط الهندي يجعله شريكاً لا غنى عنه في أي استراتيجية طويلة المدى لحماية خطوط الملاحة الدولية. وهنا تكمن العبقرية في التوقيت: بدلاً من انتظار حل الصراع الداخلي أولاً، تحول اليمن إلى استثمار أزمته في بناء شراكات استراتيجية تضمن له مكاناً على خريطة المصالح العالمية.
الحل الذكي: التحالف الاستراتيجي مع الصين كنموذج للدبلوماسية المتوازنة
ما أعلنه العليمي ليس مجرد اتفاق تعاون تقليدي، بل استراتيجية متقنة لتحويل التحديات الأمنية إلى أصول اقتصادية وسياسية. التركيز على "التنسيق الوثيق لردع التهديدات المشتركة" يضع اليمن في موقع الشريك الاستراتيجي وليس المتلقي للمساعدة، وهو تحول جذري في طبيعة العلاقات الدولية لليمن.
اختيار الصين كشريك استراتيجي في هذه المرحلة يعكس فهماً عميقاً لمتطلبات المرحلة القادمة. الصين، كأكبر شريك تجاري للدول العربية وأحد أهم المستفيدين من ممرات البحر الأحمر، تملك المصلحة والقدرة على الاستثمار طويل المدى في استقرار المنطقة. ومع مبادرة طريق الحرير البحري، تحتاج بكين إلى شركاء موثوقين في المواقع الاستراتيجية، تماماً كما يحتاج اليمن إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية والطاقة.
التركيز على مجالات التعاون العملية - تطوير قدرات خفر السواحل، الاستثمار في الموانئ، مشاريع الطاقة والبنية التحتية - يقدم نموذجاً واقعياً للشراكة المتبادلة المنافع. هذه ليست مساعدات تنموية تقليدية، بل استثمارات استراتيجية في أصول جيوسياسية حيوية. الصين تحصل على ضمانات أمن الممرات البحرية وفرص استثمارية مربحة، واليمن يحصل على رؤوس أموال وتقنيات متقدمة وشراكة دولية تعزز موقعه التفاوضي.
الأهم من ذلك أن هذه الاستراتيجية تحقق التوازن الدبلوماسي الضروري لاستقلالية القرار اليمني. بدلاً من التبعية الأحادية لمحور واحد، يبني اليمن شبكة من الشراكات المتنوعة تضمن له مرونة أكبر في التعامل مع التطورات الإقليمية والدولية. هذا التنويع في التحالفات ليس فقط ضرورة سياسية، بل ضرورة اقتصادية لجذب أكبر قدر ممكن من الاستثمارات والتقنيات المطلوبة لإعادة الإعمار.
المكاسب المحققة: من الاستقرار الأمني إلى النمو الاقتصادي
المؤشرات الأولية تظهر أن الاستراتيجية بدأت تؤتي ثمارها بالفعل. ارتفاع حركة الملاحة في البحر الأحمر بنسبة 8% في عام 2025 مقارنة بعام 2024، وفقاً لتحليل نشرة لويدز البريطانية، يؤكد أن الجهود الدبلوماسية والأمنية تحقق نتائج ملموسة على الأرض. صحيح أن المستوى لا يزال أقل بـ56% من المعدلات الطبيعية، لكن الاتجاه التصاعدي يشير إلى إمكانية استعادة الثقة في أمن الممرات المائية اليمنية.
هذا التحسن لا يقتصر على الأرقام فحسب، بل يفتح آفاقاً استثمارية واسعة في قطاعات حيوية. تطوير قدرات خفر السواحل اليمنية، كما أكد العليمي، لا يعني فقط تعزيز الأمن البحري، بل بناء قطاع جديد من الخدمات البحرية المتخصصة يمكن أن يشكل مصدراً مستداماً للدخل الوطني. الاستثمار في الموانئ والبنية التحتية البحرية يمكن أن يحول اليمن إلى مركز لوجستي إقليمي، مستفيداً من موقعه الاستراتيجي وخبراته التاريخية في التجارة البحرية.
قطاع الطاقة يقدم فرصاً أكبر للتعاون طويل المدى. احتياطات اليمن من النفط والغاز، رغم التحديات التقنية واللوجستية، تمثل أصولاً استراتيجية يمكن تطويرها بالتقنيات والاستثمارات الصينية المتقدمة. الشراكة في مشاريع الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح البحرية، تفتح مجالات جديدة كلياً للتنمية المستدامة وتنويع مصادر الدخل.
الأهم من الفوائد الاقتصادية المباشرة هو التحول في دور اليمن الإقليمي. من بلد يستهلك الأمن الإقليمي، أصبح اليمن مساهماً في إنتاج الأمن والاستقرار. هذا التحول يعزز مكانة اليمن التفاوضية في جميع الملفات الإقليمية، ويوفر له غطاء دبلوماسياً أقوى في المحافل الدولية، كما يجذب شركاء جدد يرون في الاستثمار في اليمن استثماراً في استقرار المنطقة كلها.
الطريق إلى المستقبل: اليمن كمحور للاستقرار الإقليمي والازدهار الاقتصادي
الرؤية طويلة المدى تتجاوز مجرد تحقيق الاستقرار الأمني إلى تأسيس نموذج جديد للتنمية الاقتصادية المستدامة. اليمن، بموقعه الجغرافي الفريد وتاريخه العريق في التجارة البحرية، يمكن أن يصبح منطقة اقتصادية حرة ومركزاً لوجستياً عالمياً يربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. هذه الرؤية ليست خيالاً طوباوياً، بل خطة عملية تتطلب شراكات استراتيجية متنوعة والتزاماً سياسياً طويل المدى.
الدور المحوري المتوقع لليمن في مبادرة طريق الحرير البحري يضعه في قلب أحد أهم مشاريع التنمية الاقتصادية في القرن الحالي. الشراكة مع الصين في هذا السياق لا تعني التبعية الاقتصادية، بل المشاركة في نظام اقتصادي عالمي متنامي. اليمن يقدم المواقع الاستراتيجية والموارد الطبيعية والخبرات البحرية، والصين تقدم رؤوس الأموال والتقنيات المتقدمة والأسواق الواسعة.
أهمية الحفاظ على التوازن الدبلوماسي لا يمكن التقليل من شأنها في هذا السياق. اليمن بحاجة إلى شراكات متعددة ومتنوعة لضمان استمرارية التنمية وتجنب المخاطر الجيوسياسية. التعاون مع الصين يجب أن يكمل وليس أن يحل محل الشراكات التقليدية مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة والدول العربية. هذا التنويع يضمن للاقتصاد اليمني مرونة أكبر في مواجهة التقلبات العالمية ويوفر خيارات أوسع للتمويل والتقنيات.
التزام القيادة اليمنية، كما أكد العليمي، بتحويل التحديات الأمنية إلى فرص تنموية يعكس نضج سياسي واستراتيجي مطلوب لإدارة هذه المرحلة الحساسة. النجاح في تحقيق هذا التحول لن يعود بالنفع على اليمن فحسب، بل سيقدم نموذجاً ملهماً للدول التي تعاني من صراعات طويلة حول كيفية الاستفادة من أصولها الاستراتيجية لبناء شراكات دولية تضمن لها مستقبلاً أكثر استقراراً وازدهاراً.