في قلب محافظة أبين، حيث تتقاطع مصائر الآلاف من المواطنين مع قرارات سياسية وعسكرية معقدة، تتبلور قصة طريق عقبة ثُرة كنموذج حي لكيفية تحويل التحديات المجتمعية إلى فرص تنموية حقيقية. فبينما يرسل المجلس الانتقالي الجنوبي تعزيزات عسكرية إلى هذه المنطقة الجبلية الوعرة، ويخرج أبناء لودر في احتجاجات سلمية للمطالبة بفتح الطريق، تتكشف أمامنا إمكانيات هائلة لخلق نموذج تنموي قادر على تجاوز الانقسامات السياسية وتحقيق المصالح المشتركة لجميع أطياف المجتمع اليمني.
فهم السياق: لماذا يُعد طريق عقبة ثُرة مفتاح التنمية في أبين؟
يحتل طريق عقبة ثُرة موقعاً استراتيجياً فريداً كونه الشريان الوحيد الذي يربط المديريات الشرقية في أبين بمحافظة البيضاء، مما يجعله منفذاً حيوياً لحوالي 200 ألف مواطن يعتمدون عليه في تنقلاتهم اليومية. هذا الطريق، المغلق منذ عام 2015 بسبب المواجهات العسكرية، لا يمثل مجرد معبر جغرافي، بل يشكل العمود الفقري للحياة الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.
إن إغلاق هذا الطريق أجبر المواطنين على سلوك طرق بديلة تستغرق أكثر من ست ساعات، مقارنة بساعتين فقط عبر عقبة ثُرة، مما ضاعف من تكاليف النقل والمعيشة. هذا التأثير المباشر على الحياة اليومية للسكان حول الطريق إلى رمز للمعاناة الإنسانية، حيث يواجه الطلاب صعوبات في الوصول إلى مدارسهم وجامعاتهم، بينما يعاني المرضى من تأخير في الحصول على الرعاية الطبية العاجلة.
التحديات الجغرافية للمنطقة الجبلية الوعرة التي يمر بها الطريق تضيف بعداً تقنياً معقداً للمسألة، حيث تتطلب عمليات الصيانة والتطوير خبرات متخصصة واستثمارات مدروسة. لكن هذه التحديات ذاتها تخفي فرصاً ذهبية لخلق نموذج تنموي متكامل يجمع بين تطوير البنية التحتية وتنشيط الاقتصاد المحلي وتعزيز التماسك الاجتماعي.
قراءة المشهد الحالي: التحركات والمواقف والفرص المتاحة
يكشف إرسال المجلس الانتقالي لتعزيزات عسكرية تضم آليات قتالية ووحدات دعم وإسناد عن رغبة في "تعزيز الوضع الدفاعي ومنع التحركات المفاجئة" كما جاء في بيانه الرسمي. هذا التحرك، رغم طابعه العسكري الظاهر، يمكن قراءته كإشارة إلى استعداد للمشاركة في ترتيبات أمنية جديدة تمهد لفتح الطريق، خاصة مع تصريحات محافظ أبين التي تشير إلى وجود دراسات فنية جاهزة لإعادة تأهيل الطريق.
من الجانب الآخر، يظهر موقف الحوثيين استعداداً معلناً لفتح الطريق من جانبهم، وهو موقف يعكس إدراكاً لأهمية هذا المعبر في تعزيز التواصل بين المناطق اليمنية المختلفة. هذا الاستعداد المتبادل، رغم التحديات السياسية المعقدة، يوفر أرضية صلبة لبناء حلول عملية تخدم مصالح جميع الأطراف.
أما الاحتجاجات الشعبية في مديرية لودر، والتي شهدتها المنطقة خلال الأيام الماضية، فتمثل القوة الدافعة الحقيقية للتغيير. هذه التحركات السلمية تعكس وعياً مجتمعياً ناضجاً بأهمية الطريق ورغبة جماعية في إيجاد حلول سلمية للأزمة. المطالب المرفوعة من قبل الأهالي لا تقتصر على مجرد فتح الطريق، بل تشمل إنهاء العزلة المفروضة على المنطقة وتحسين ظروف المعيشة.
تقييم آراء المراقبين والناشطين يكشف عن إجماع واضح على أن تعزيز قوات الانتقالي يهدف إلى "تأكيد السيطرة على المنطقة وربط أي خطوات لفتح الطريق بترتيبات سياسية وأمنية مسبقة". هذا التحليل يشير إلى إمكانية تحويل هذه الترتيبات الأمنية إلى آلية فعالة لضمان استدامة أي اتفاق مستقبلي حول فتح الطريق.
أدوات التحويل: كيف تصبح المطالب الشعبية محرك تنمية؟
تتطلب عملية تحويل الأزمة الراهنة إلى فرصة تنموية حقيقية استراتيجيات متكاملة للضغط السلمي والمشاركة المجتمعية الفعالة. النموذج الذي نشهده في لودر، حيث ينظم المواطنون تظاهرات سلمية يومية أسفل العقبة، يمثل مثالاً قوياً على قدرة المجتمعات المحلية على التعبير عن حاجاتها بطرق حضارية ومؤثرة. هذا النهج السلمي يخلق ضغطاً إيجابياً على جميع الأطراف للبحث عن حلول عملية دون اللجوء للتصعيد العسكري.
آليات الحوار والتفاوض بين الأطراف المختلفة تشكل الركيزة الأساسية لأي تقدم مستدام في هذا الملف. فشل مبادرة "الرايات البيضاء" في تحقيق تقدم ملموس رغم الجهود المتكررة يسلط الضوء على ضرورة تطوير آليات تفاوضية أكثر شمولية وفعالية. هذا يتطلب إشراك ممثلين عن المجتمعات المحلية المتضررة في عمليات التفاوض، وليس الاكتفاء بالتنسيق على المستوى السياسي فقط.
دور المجتمع المدني والقطاع الخاص في دعم هذه المبادرات لا يقل أهمية عن الجهود الحكومية والسياسية. التجارب الناجحة في مناطق أخرى من اليمن تظهر أن مشاركة رجال الأعمال والمنظمات المدنية في تمويل مشاريع البنية التحتية يمكن أن تسرع من عمليات التنفيذ وتضمن استدامة النتائج. في حالة طريق عقبة ثُرة، يمكن للقطاع الخاص أن يساهم في تمويل أعمال الصيانة والتطوير مقابل حقوق استثمارية في المشاريع التجارية المرتبطة بالطريق.
الاستفادة من النماذج الناجحة لحل النزاعات حول الطرق الاستراتيجية في بلدان أخرى تواجه صراعات مشابهة توفر إرشادات قيمة لتطبيقها على الحالة اليمنية. هذه النماذج تؤكد على أهمية إشراك القيادات المجتمعية المحلية في وضع الحلول، وضرورة ربط مشاريع البنية التحتية ببرامج تنموية أوسع تخدم المجتمعات المحيطة.
خريطة الطريق العملية: خطوات تحويل الأزمة إلى فرصة
تبدأ المرحلة الأولى ببناء الثقة وتهيئة الأرضية للحوار من خلال تشكيل لجنة مشتركة تضم ممثلين عن جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك القيادات المحلية في أبين والبيضاء، وممثلين عن المجتمع المدني، ووجهاء القبائل المؤثرة في المنطقة. هذه اللجنة ستكون مسؤولة عن وضع إطار زمني واضح للمفاوضات وتحديد آليات التنفيذ والمتابعة. من المهم في هذه المرحلة تنظيم زيارات ميدانية للجنة لتقييم الوضع الراهن والتعرف مباشرة على احتياجات المواطنين وتوقعاتهم.
المرحلة الثانية تركز على وضع ترتيبات أمنية مشتركة مقبولة من الجميع، تشمل تشكيل قوة أمنية مختلطة من عناصر محايدة تتولى حماية الطريق وضمان سلامة المستخدمين. هذه الترتيبات يجب أن تتضمن بروتوكولات واضحة للتعامل مع أي توترات قد تنشأ، وآليات للتنسيق السريع بين الأطراف في حالة الطوارئ. كما يتطلب الأمر إنشاء نقاط تفتيش مشتركة تعمل بشفافية وبما لا يعيق حركة المواطنين العاديين.
تأتي المرحلة الثالثة لتطوير خطة تنموية شاملة للاستفادة من فتح الطريق، تشمل إقامة أسواق تجارية حديثة على جانبي الطريق، وتطوير خدمات النقل والمواصلات، وإنشاء محطات خدمات متكاملة تشمل الوقود والصيانة والإسعافات الأولية. هذه الخطة يجب أن تراعي الاستدامة البيئية نظراً لطبيعة المنطقة الجبلية، وتتضمن مشاريع لحماية المياه الجوفية ومنع التلوث.
المرحلة الرابعة تضع آليات المتابعة وضمان الاستدامة من خلال تشكيل مجلس إدارة دائم للطريق يضم ممثلين عن جميع الأطراف المعنية، ويتولى الإشراف على عمليات الصيانة الدورية وحل أي خلافات قد تنشأ. هذا المجلس سيكون مسؤولاً أيضاً عن تطوير مصادر تمويل مستدامة للطريق من خلال رسوم رمزية على الشاحنات التجارية، وعائدات المشاريع الاستثمارية المرتبطة بالطريق.
استشراف المستقبل: التأثيرات التنموية المتوقعة على المدى الطويل
سيشهد القطاع التجاري في المنطقة نهضة حقيقية مع فتح الطريق، حيث ستنخفض تكاليف نقل البضائع بنسبة تصل إلى 70%، مما سيؤدي إلى انخفاض أسعار السلع الأساسية وتحسين القوة الشرائية للمواطنين. هذا التحسن الاقتصادي سيحفز إقامة مشاريع تجارية جديدة على طول الطريق، مما يوفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لآلاف الشباب في المنطقة. كما ستنتعش حركة السياحة الداخلية نظراً لسهولة الوصول إلى المواقع الطبيعية الجميلة في المنطقة الجبلية.
على صعيد الخدمات الأساسية، سيتمكن المرضى من الوصول إلى المستشفيات المتخصصة في البيضاء وعدن خلال ساعات قليلة بدلاً من رحلة شاقة تستغرق يوماً كاملاً، مما سينقذ أرواح كثيرة ويحسن من جودة الرعاية الصحية المتاحة. بالنسبة للطلاب، سيصبح بإمكانهم الالتحاق بالجامعات في محافظات أخرى دون الحاجة للانتقال نهائياً من مناطقهم، مما يحافظ على النسيج الاجتماعي ويقلل من تكاليف التعليم العالي على الأسر.
الفرص الاستثمارية الجديدة التي ستنشأ تشمل إقامة مجمعات صناعية صغيرة لتصنيع المنتجات الزراعية والحرفية التقليدية في المنطقة، وتطوير مشاريع الطاقة المتجددة نظراً للظروف المناخية المناسبة في المنطقة الجبلية. كما ستظهر فرص جديدة في قطاعات اللوجستيات والنقل، حيث ستصبح المنطقة محوراً مهماً لحركة البضائع بين الشمال والجنوب.
النموذج الذي سيتم تطويره في عقبة ثُرة يمكن أن يُحتذى به لحل قضايا مشابهة في محافظات أخرى تعاني من انقطاع الطرق الرئيسية، مثل الطريق الرابط بين تعز وإب، وطرق حضرموت الداخلية. هذا التكرار للنجاح سيساهم في بناء شبكة طرق متكاملة تعزز الوحدة الاقتصادية والاجتماعية لليمن، وتقلل من آثار التقسيمات السياسية على حياة المواطنين اليومية.
إن تحويل أزمة طريق عقبة ثُرة إلى قصة نجاح تنموية ليس مجرد حلم بعيد المنال، بل واقع قابل للتحقيق إذا توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية اللازمة. النماذج الناجحة في مناطق أخرى من العالم تؤكد أن الأزمات الإنسانية يمكن أن تتحول إلى محركات للتنمية والتقدم عندما تلتقي المطالب الشعبية المشروعة مع الحلول العملية المبتكرة. طريق عقبة ثُرة اليوم هو أكثر من مجرد معبر جغرافي - إنه رمز للأمل في إمكانية تجاوز التقسيمات والصراعات من أجل مستقبل أفضل للجميع.