أطلقت وزارة الخزانة الأمريكية ضربة موجعة جديدة ضد آلة التمويل الإيرانية السرية، مستهدفة بدقة جراحية شبكة معقدة من اثني عشر سفينة وعشرات الشركات الوهمية، في محاولة لإضعاف الدعم المالي للحوثيين في اليمن. الضربة الجديدة، التي أعلن عنها وزير الخزانة سكوت بيسنت، تكشف للمرة الأولى تفاصيل مذهلة حول الآليات السرية التي تحول عشرات ملايين براميل النفط الإيراني إلى أسلحة ومعدات عسكرية تصل إلى أيدي المقاتلين في صنعاء وعدن.
الأدلة المكشوفة: خريطة الشبكة المالية الإيرانية
تكشف الوثائق الأمريكية المفصلة أسماء وتفاصيل مثيرة لشبكة التهريب المعقدة، في مقدمتها اليوناني أنطونيوس مارغاريتيس الذي يدير إمبراطورية من الشركات الوهمية تمتد من أثينا إلى هونغ كونغ. شركات مثل "Marant Shipping and Trading S.A." و"Square Tanker Management Ltd." لم تكن مجرد أسماء على الورق، بل محاور حيوية في عملية تحويل النفط الخام إلى عملة صعبة تمول آلة الحرب الإيرانية.
الأرقام المكشوفة تحكي قصة مذهلة: سفينة "LAFIT" وحدها نقلت أكثر من أربعة ملايين برميل من النفط منذ مارس الماضي، بينما سفينة "GIANT" تولت نقل مليوني برميل إضافي. الشركات الهونغ كونغية الثلاث المستهدفة - "U Beacon Shipping Co. Ltd" و"Hangshun Shipping Limited" و"Ares Shipping Limited" - أدارت عمليات نقل عشرات ملايين البراميل، مع إجراء عمليات تحويل نفط معقدة بين السفن في أعالي البحار لإخفاء المصدر الحقيقي.
الشركة الإماراتية "Ozarka Shipping - FZCO" لعبت دوراً محورياً كجسر لوجستي، حيث أدارت سفناً مثل "VICTORY ARI" و"SONDOS" و"KATSUYA" التي تولت نقل الشحنات الإيرانية إلى المصافي الصينية. هذه الشبكة المترابطة تعمل بكفاءة مذهلة، حيث تحول النفط من حقول إيران إلى أموال نقدية تصل في النهاية إلى خزائن جماعة الحوثيين لشراء الصواريخ والطائرات المسيرة.
تشريح عمليات "أساطيل الظل": من النفط إلى السلاح
تكشف العقوبات الجديدة عن تفاصيل مذهلة حول آليات عمل ما يسمى بـ"أساطيل الظل" الإيرانية. هذه السفن، التي تحمل أعلاماً مزورة وتستخدم أسماء وهمية، تتحرك عبر طرق بحرية معقدة تتجنب الرقابة الدولية. العملية تبدأ من الموانئ الإيرانية، حيث يتم تحميل النفط على سفن تحمل هويات مزورة، ثم تتجه هذه السفن إلى نقاط تجمع سرية في المياه الدولية.
في هذه النقاط، تحدث عملية "التحويل بين السفن" الأكثر تعقيداً، حيث يتم نقل النفط من السفن الإيرانية إلى سفن أخرى تحمل وثائق نظيفة ظاهرياً. هذه العملية تتم عادة في ظلام الليل وبعيداً عن طرق الملاحة التجارية الرئيسية. الشركات المتخصصة في هونغ كونغ تدير هذه العمليات بدقة عسكرية، مستخدمة تقنيات متطورة لتجنب أقمار الرقابة الصناعية.
المرحلة الأخيرة تشمل وصول النفط إلى المصافي الآسيوية، خاصة الصينية، حيث يتم تكريره وبيعه كنفط عادي. الأموال المحصلة تمر عبر شبكة معقدة من البنوك والشركات الوسيطة قبل أن تصل إلى الخزانة الإيرانية، ومن ثم يتم تحويل جزء منها لتمويل عمليات الحوثيين في اليمن. هذه الآلية المعقدة تسمح لإيران بتحويل مواردها الطبيعية إلى نفوذ عسكري وسياسي في المنطقة.
الأدوات الجديدة: لماذا تختلف هذه العقوبات عن السابقة؟
تمثل هذه العقوبات تطوراً نوعياً في الاستراتيجية الأمريكية، حيث تستند إلى الأمر التنفيذي رقم 13902 ومذكرة الأمن القومي الرئاسية رقم 2، اللذين يوفران إطاراً قانونياً موسعاً للضغط على قطاع النفط الإيراني. على عكس العقوبات السابقة التي كانت تركز على الكيانات الحكومية الإيرانية بشكل مباشر، تستهدف الموجة الحالية الشبكة اللوجستية الخاصة التي تدير العمليات السرية.
الجديد في هذه الحزمة هو التركيز على "الحلقات الوسطية" في السلسلة المالية، بدلاً من الاكتفاء بمعاقبة المصدر والمستهلك النهائي. استهداف شخصيات مثل أنطونيوس مارغاريتيس يكشف عن فهم أعمق للطريقة التي تعمل بها هذه الشبكات، حيث يلعب الوسطاء الأجانب دوراً حاسماً في توفير الغطاء القانوني والتقني للعمليات.
مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) طور أيضاً أدوات رقابية جديدة تعتمد على تتبع حركة السفن عبر الأقمار الصناعية وتحليل البيانات المالية الضخمة. هذه التقنيات تسمح بكشف العمليات المشبوهة بشكل أسرع وأكثر دقة من أي وقت مضى. كما أن التعاون مع الحلفاء في آسيا وأوروبا وفر قاعدة معلومات أوسع لتتبع هذه الشبكات المعقدة.
ما يميز هذه الموجة أيضاً هو التوقيت المدروس، حيث تأتي في سياق تصاعد التوترات الإقليمية وزيادة نشاط الحوثيين في البحر الأحمر. هذا يعني أن العقوبات ليست مجرد أداة اقتصادية، بل جزء من استراتيجية شاملة لتقليص القدرات العملياتية لإيران ووكلائها في المنطقة.
التأثير المباشر على الصراع اليمني: السيناريوهات المحتملة
التأثير الفوري للعقوبات الجديدة على الوضع اليمني قد يكون أكبر مما تشير إليه الأرقام المعلنة. خبراء الشؤون اليمنية يقدرون أن الحوثيين يحصلون على ما بين 100-200 مليون دولار سنوياً من العائدات المرتبطة بالنفط الإيراني، وهو مبلغ كافٍ لشراء آلاف الصواريخ والطائرات المسيرة. قطع هذا المصدر، أو حتى تقليصه بنسبة كبيرة، سيجبر الجماعة على إعادة تقييم استراتيجيتها العسكرية.
السيناريو الأكثر احتمالاً هو تراجع تدريجي في عمليات الحوثيين البحرية، خاصة الهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر. هذه العمليات تتطلب موارد مالية ضخمة لصيانة الزوارق السريعة والحصول على الصواريخ البحرية المتطورة. مع تقلص الموارد، قد تضطر الجماعة للتركيز على العمليات البرية الأقل كلفة ضد القوات الحكومية والتحالف العربي.
لكن إيران والحوثيين لن يقفوا مكتوفي الأيدي. الاستجابة المتوقعة تشمل تطوير طرق تمويل بديلة، ربما من خلال تهريب المخدرات أو الاعتماد أكثر على الدعم المباشر من الحرس الثوري الإيراني. كما قد نشهد محاولات لتطوير شبكات جديدة تستخدم العملات الرقمية أو التجارة الحدودية مع عُمان والسعودية لتجنب النظام المصرفي التقليدي.
على المدى الطويل، قد تفتح هذه الضغوط المالية نافذة فرصة للحل السياسي في اليمن. عندما تتقلص الموارد العسكرية للحوثيين، قد تصبح الجماعة أكثر استعداداً للمشاركة في مفاوضات جدية مع الحكومة اليمنية والمجتمع الدولي. هذا السيناريو يتطلب دبلوماسية ماهرة من جانب الوسطاء الإقليميين، خاصة السعودية وعُمان، لاستغلال هذه النافذة قبل أن تجد الجماعة مصادر تمويل بديلة.
ما بعد الكشف: الرسائل الاستراتيجية والتحديات القادمة
رسالة واشنطن من هذه العقوبات واضحة ومتعددة الأبعاد: الولايات المتحدة تملك القدرة على تتبع وتفكيك أعقد شبكات التمويل السري، وهي مستعدة لاستخدام هذه القدرة ضد ما تصفه بـ"محور المقاومة" الإيراني. الرسالة موجهة ليس فقط لطهران، بل أيضاً للشركات الدولية التي قد تفكر في التعامل مع الشبكات الإيرانية، والدول التي تتردد في تطبيق العقوبات بصرامة.
لكن التحديات أمام فعالية هذه الاستراتيجية كبيرة. الاقتصاد الموازي الإيراني أثبت مرونة استثنائية على مدى عقود من العقوبات، وطور آليات تكيف متطورة تشمل استخدام البنوك الآسيوية الصغيرة، والتجارة المقايضة، والاعتماد على شبكات عائلية وقبلية في المنطقة. إيران نجحت مراراً في إعادة تشكيل شبكاتها التجارية بشكل أسرع مما توقعته واشنطن.
الموقف الصيني والروسي يشكل تحدياً إضافياً، حيث تعارض بكين وموسكو بشدة العقوبات الأحادية الأمريكية وتوفران مظلة حماية نسبية للعمليات التجارية الإيرانية. الصين تحديداً تستفيد من النفط الإيراني المخفض السعر، وقد طورت آليات دفع بالعملة المحلية تتجنب النظام المالي الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
السؤال الأساسي يبقى: هل ستحقق هذه العقوبات هدفها النهائي في تغيير معادلة الصراع اليمني؟ المؤشرات الأولية تشير إلى أن التأثير سيكون تدريجياً وليس فورياً. الحوثيون يملكون احتياطيات مالية وعسكرية تكفي لأشهر، وإيران لديها خبرة عقود في تطوير بدائل للشبكات المكشوفة. النجاح الحقيقي لهذه الاستراتيجية سيتطلب متابعة دقيقة ومستمرة، وربما الأهم من ذلك، تطوير مقاربة شاملة تجمع بين الضغط الاقتصادي والدبلوماسية النشطة لفتح مسارات جديدة للحل السياسي في اليمن.
الكشف الأمريكي لهذه الشبكة المعقدة يمثل انتصاراً تقنياً ومعلوماتياً لا يُستهان به، لكنه يبقى مجرد خطوة واحدة في معركة طويلة. اختبار النجاح الحقيقي سيأتي في الأسابيع والشهور القادمة، عندما نرى ما إذا كان تفكيك هذه الشبكة سيترجم إلى تغيير حقيقي في ميزان القوى على الأرض اليمنية، أم أنه سيكون مجرد إزعاج مؤقت لآلة تمويل إيرانية ثبت أنها قادرة على التكيف والبقاء رغم كل الضغوط.