في صنعاء، تُشن حملة اختطافات ضد قيادة المؤتمر رغم أن الحزب أعلن تخليه عن إقامة أي فعالية بمناسبة ذكرى تأسيسه. هذا التناقض المحير يكشف عن حقيقة مذهلة: النظام السلالي لا يهدأ حتى أمام الخضوع المطلق. بل إن طاعة الضحايا تزيد من هلعه، وخنوعهم يضاعف من عنفه. نحن أمام مشهد يبدو غير منطقي للوهلة الأولى، لكنه في الواقع يفضح الطبيعة النفسية المعقدة للسلطة السلالية المذعورة.
مسرح الجريمة: عندما تكشف الطاعة عن الخوف الأعمق
الدليل أمامنا واضح وصادم: حزب المؤتمر تنازل عن كل شيء، حتى عن ذكرى تأسيسه، استجابة لضغوط الحوثيين. لكن بدلاً من أن يشعر النظام بالطمأنينة، شن حملة اختطافات ضد قادة هذا الحزب المُطيع. هذا السلوك يبدو غير عقلاني من الناحية السياسية التقليدية، لكنه منطقي تماماً من منظور علم النفس السياسي.
ما يحدث هنا ليس مجرد قمع سياسي عادي، بل كشف عن ديناميكية نفسية أعمق. النظام السلالي يعيش في حالة رعب مستمر، ليس من أعدائه المعلنين، بل من طيف المقاومة المحتملة التي قد تتشكل في أي لحظة. كل كيان سياسي منفصل، حتى لو كان ضعيفاً ومُطيعاً، يُذكّر اليمنيين بإمكانية وجود بديل آخر غير الهيمنة السلالية.
السؤال الجنائي الذي يطرح نفسه: لماذا يخاف النظام من الخاضعين أكثر من المتمردين؟ الإجابة تكمن في فهم أن الخضوع القسري يحمل في طياته بذور الانتقام المؤجل. النظام يدرك أن كل طاعة مُنتزعة بالقوة تخفي وراءها كراهية عميقة، وأن كل ابتسامة مُجبرة تُخفي مقاومة كامنة.
تشريح الجاني: علم نفس السلالة المحاصرة بأشباحها
التحليل النفسي لسلوك الحوثيين يكشف عن ظاهرة "خوف الخوف" - حين يصبح الخوف نفسه محركاً ذاتياً للقمع. هم يعيشون زمنيين متناقضين في آن واحد: زمن القوة والهيمنة الآنية، وزمن الانهيار والسقوط المتوقع. هذا التناقض الزمني يخلق حالة من القلق الوجودي المستمر.
مقتل صالح، زعيم المؤتمر السابق، رغم تحالفه معهم لسنوات، يوفر نافذة مهمة لفهم العقلية السلالية. لم يقتلوه لأنه تمرد أو خانهم، بل لأنهم أدركوا أن وجوده كحليف يحمل خطراً أكبر من وجوده كعدو. الحليف يعرف نقاط الضعف، ويمتلك شبكة علاقات، ويحتفظ برصيد شعبي. هذا النمط يتكرر الآن مع قيادات المؤتمر: كلما ازدادت طاعتهم، ازداد الخوف منهم.
السلوك الحوثي يكشف عن نمط نفسي معروف في علم النفس السياسي: كل جريمة وكل اعتقال هو محاولة فاشلة لمحو مستقبل سقوطهم المتوقع. هم يتصرفون وكأن نهايتهم المحتومة قد تسربت إلى الحاضر تُحاصرهم. يعيشون يقيناً خفياً بأن النهاية تقترب، فيحاولون تأجيلها بمزيد من القمع، لكن كل فعل قمعي جديد يقربهم أكثر من النهاية التي يخافونها.
الخوف الحوثي ليس مجرد خوف سياسي عادي، بل خوف وجودي من الذوبان. النظام السلالي يقوم على وهم التفوق العرقي والحق الإلهي المزعوم، وأي إشارة لوجود كيان سياسي منفصل - حتى لو كان ضعيفاً - تُهدد هذا الوهم الأساسي. لذلك نراهم يطالبون المؤتمر عملياً بمحو ذاته، وليس فقط بالخضوع.
فك شيفرة التناقض: كيف تصبح الطاعة لعنة على الطاغية
المفارقة المركزية التي نشهدها تتطلب تحليلاً عميقاً: لماذا تزيد طاعة المؤتمر من ارتباك السلالة؟ الإجابة تكمن في فهم الطبيعة السامة للطاعة المُنتزعة بالقوة. هذه الطاعة لا تجلب الطمأنينة، بل تتحول إلى مصدر قلق إضافي، لأنها "طاعة سامة قاتلة أشبه بشربة ماء مالح تزيد العطش".
الحوثي يرى خلف كل طاعة قبلية فخاً منصوباً، ويقرأ كل خضوع كمكر وتمويه. هذا الشك العميق ليس مجرد جنون اضطهادي، بل نتيجة منطقية لطبيعة النظام نفسه. عندما تحكم بالقوة والإذلال، فإن كل طاعة تحصل عليها تحمل في طياتها احتمالية الانتقام. النظام يدرك أن الناس لا يُطيعونه حباً، بل خوفاً، وأن هذا الخوف قابل للتحول إلى غضب انتقامي في أي لحظة مناسبة.
آلية نفسية أخرى تفسر السلوك: النظام السلالي لا يثق إلا بمن يثق بـ"هاشمية دمهم"، بينما يرى طاعة اليمنيين غير الهاشميين مجرد نفاق وخداع. هذا التحيز العرقي المتجذر يجعل كل علاقة مع اليمنيين علاقة مشبعة بالشك والريبة، مهما بلغت درجة الخضوع والطاعة.
النتيجة الحتمية لهذا المنطق المدمر: كلفة الخضوع للسلالة تصبح أكبر من كلفة مقاومتها. عندما يدرك الناس أن الطاعة لا تحميهم من القمع، بل قد تُعرضهم لقمع أشد، تنهار الحوافز للبقاء في دائرة الولاء. هذا ما يفسر لماذا تفشل الأنظمة السلالية في النهاية: طبيعتها الشكاكة تدفعها لتدمير حتى مؤيديها.
البروفايل النهائي: تشخيص السلطة السلالية المذعورة
التشخيص النفسي الكامل للنظام الحوثي يُظهره كسلالة مغلقة تمسك بكل شيء وترتعد من كل شيء. إنها سلطة سلالية مذعورة غير مطمئنة، تعيش في رعب متصل لا يتيح لها أي أفق للاستقرار أو الثقة. لا تحتمل حتى وجود حزب منزوع القدرة ومجرد من القوة، لأن كل شيء في منطقها يُقرأ بلغة التهديد الوجودي.
النمط السلوكي واضح: يتحول الخوف من أداة تهيمن الحوثية من خلالها إلى غول يلتهمها من الداخل. تهيمن بالخوف لكنها غارقة فيه، تنشر الرعب لكنها أكثر من يعيشه. هذا التناقض الداخلي يجعل النظام في حالة من التآكل النفسي المستمر، حيث كل انتصار تكتيكي يزيد من الهزيمة الاستراتيجية.
فهم هذه النفسية المضطربة ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل خطوة أولى ضرورية لمقاومتها بفعالية. عندما ندرك أن الطاغية يعيش خوفاً أعمق من ضحاياه، وأن قوته الظاهرية تُخفي ضعفاً جوهرياً، نكتسب أدوات مقاومة نفسية قوية. المعرفة بطبيعة الخوف الذي يحرك الطاغية تُمكن من فضح ضعفه وتعرية أوهام قوته.
هذا النموذج اليمني ليس حالة استثنائية، بل قابل للتطبيق على أنظمة استبدادية مشابهة حول العالم. كلما فهمنا علم نفس الطغاة بشكل أفضل، كلما أصبحنا أكثر قدرة على مقاومتهم وتحرير شعوبنا من قبضتهم المدمرة. الخوف الذي ينشرونه ليس علامة قوة، بل أعراض مرض نهائي في جسد السلطة الفاسدة.
في النهاية، ما نشهده في اليمن ليس مجرد صراع سياسي، بل دراسة حالة حية لكيفية انهيار الأنظمة السلالية من الداخل. عندما يصبح الخوف هو المحرك الرئيسي للسلطة، تدخل في دوامة تدميرية لا مفر منها. فهم هذه الديناميكية النفسية يُسلحنا بأقوى أسلحة المقاومة: المعرفة بحقيقة الطاغية وطبيعة خوفه الأعمق من شعبه.