في أحد البيوت الطينية بضواحي صنعاء، تحاول نورا اليمانية تحضير وجبة الإفطار من كيس أرز ناقص وبعض الطحين المتبقي من آخر حصة غذائية. تفتح محفظة زوجها الذي يعمل بائعًا متجولًا لتجد أن الأوراق النقدية اليمنية قد ازدادت قيمتها مؤخرًا مقارنة بالدولار، لكن الطعام لا يزال بعيد المنال. هذا المشهد يتكرر في ملايين البيوت اليمنية التي تواجه تناقضًا مؤلمًا: تحسن العملة لا يعني نهاية أزمة الجوع التي تطحن ثلثي السكان، بل يكشف عن تعقيدات أعمق في أزمة تحتاج حلولًا محلية جذرية قبل أن تنضب مصادر المساعدات الدولية نهائيًا.
الواقع المعقد: عندما لا تكفي العملة القوية لإطعام الشعب
يكشف تقرير برنامج الأغذية العالمي عن مفارقة صادمة: بينما شهد الريال اليمني تحسنًا ملحوظًا مطلع أغسطس في المناطق الخاضعة للحكومة المعترف بها، ما زال ثلثا سكان اليمن غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الغذائية. هذا التناقض يكشف عن طبيعة الأزمة الغذائية المعقدة التي لا تقتصر على العوامل النقدية وحدها.
الأرقام تروي قصة مؤلمة: في يوليو الماضي، وصلت المساعدات الغذائية إلى 2.7 مليون شخص من أصل 2.8 مليون مستفيد من برامج البرنامج المختلفة. وهذا يعني أن كل طن من الـ19,700 طن الغذائية الموزعة يجب أن تطعم نحو 137 شخصًا شهريًا، وهو رقم يوضح حجم النقص الهائل في المواد الغذائية المتاحة.
لكن الأزمة الحقيقية تكمن في الفجوة التمويلية الضخمة البالغة 441 مليون دولار للفترة من سبتمبر 2025 إلى فبراير 2026. هذا المبلغ ليس مجرد رقم، بل يمثل الفارق بين الحياة والموت لملايين اليمنيين الذين يعتمدون كليًا على المساعدات الخارجية. والأخطر أن البرنامج يستعد لمزيد من التقليص خلال الأشهر المقبلة، مما يعني أن التحسن النسبي للعملة قد لا يكون كافيًا لتعويض النقص المتزايد في المساعدات.
تحسن الريال اليمني، رغم أهميته النسبية، يواجه تحديات هيكلية أعمق تتعلق بانهيار البنية التحتية للإنتاج الغذائي المحلي، وتدمير شبكات التوزيع، وتآكل القدرة الشرائية الحقيقية للمواطنين. فالقدرة على شراء الطعام لا تعتمد فقط على قوة العملة، بل على توفر الطعام في الأسواق وقدرة الأسر على الوصول إليه بأسعار معقولة.
نافذة الفرصة المحدودة: كيف يمكن استثمار تحسن الريال بذكاء
تحسن الريال اليمني يفتح نافذة فرصة استراتيجية محدودة الوقت يجب استثمارها بحكمة. فالتحسن في القدرة الشرائية يمكن أن يقلل تدريجيًا من تكلفة استيراد المواد الغذائية الأساسية، مما يوفر هامش تنفس للاقتصاد المحلي المنهار. لكن هذه النافذة هشة وقد تنغلق بسرعة إذا لم تُستغل بطريقة استراتيجية.
الفرصة الذهبية تكمن في إعادة توجيه جزء من المساعدات النقدية البالغة 5.8 ملايين دولار شهريًا نحو استثمارات إنتاجية محلية بدلًا من الاستهلاك المباشر. فبدلًا من توزيع المال فقط لشراء الطعام، يمكن استخدام جزء منه لدعم المشاريع الزراعية الصغيرة، وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية المتضررة، وتوفير البذور والأدوات للمزارعين المحليين.
التحدي العملي يتمثل في هشاشة هذا التحسن. فالريال اليمني لا يزال عرضة للتقلبات السياسية والاقتصادية، كما أن الصراع المستمر وعدم الاستقرار يهددان أي مكاسب اقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تحسن العملة لا يعالج المشاكل الهيكلية العميقة مثل نقص البنية التحتية، وتدمير شبكات الري، وغياب الخدمات الزراعية الأساسية.
لكن الدروس من التجارب السابقة تشير إلى أن فترات الاستقرار النسبي للعملة كانت الأكثر نجاحًا في تحقيق قفزات في الإنتاج الزراعي المحلي. ففي عام 2019، عندما شهد الريال استقرارًا نسبيًا لعدة أشهر، نجحت بعض المجتمعات في الحديدة وإب في زيادة إنتاجها المحلي من الخضروات بنسبة تزيد عن 40%. المطلوب اليوم هو تكرار هذه التجربة على نطاق أوسع واستثمار النافذة الحالية للتحسن لبناء أسس إنتاجية أكثر استدامة.
خارطة الحلول المحلية: ما يمكن للمجتمع اليمني فعله الآن
المبادرات الزراعية المجتمعية تمثل الخط الأمامي لمواجهة أزمة الغذاء. في محافظة إب، نجحت مجموعة من المزارعين في تطوير نظام ري تعاوني يخدم 15 قرية باستخدام تقنيات الري بالتنقيط البسيطة. هذا النموذج خفض تكلفة الإنتاج بنسبة 30% وزاد الإنتاجية بنسبة 50%، مما وفر الأمن الغذائي لأكثر من 3000 شخص. التجربة تثبت أن الحلول المحلية ليست فقط ممكنة، بل قد تكون أكثر فعالية واستدامة من المساعدات الخارجية.
شبكات التضامن والتكافل تلعب دورًا محوريًا في بناء المقاومة المجتمعية للأزمة. في صنعاء القديمة، طورت المجتمعات آليات دعم ذاتي تعتمد على نظام "الجمعيات" التقليدي، حيث تساهم كل أسرة بمبلغ صغير شهريًا لإنشاء صندوق مجتمعي يدعم العائلات الأكثر احتياجًا. هذا النظام لا يوفر الدعم المالي فحسب، بل يحافظ على الكرامة الإنسانية ويعزز التماسك الاجتماعي في وجه الأزمة.
الاستثمار في المشاريع الصغيرة يمكن أن يحول المساعدات النقدية من إغاثة مؤقتة إلى رأس مال إنتاجي. مشروع تربية الماعز في قرى لحج، الذي بدأ بـ200 دولار لكل أسرة من المساعدات النقدية، نجح في توفير مصدر دخل ثابت لـ50 عائلة خلال ستة أشهر. العائد الاستثماري وصل إلى 300% خلال السنة الأولى، كما وفر المشروع البروتين الحيواني لأطفال المنطقة.
التعاونيات الاستهلاكية تقدم نموذجًا عمليًا لتقليل تكلفة الغذاء من خلال الشراء الجماعي. في عدن، تمكنت تعاونية تضم 200 أسرة من تقليل تكلفة السلة الغذائية الأساسية بنسبة 25% عبر الشراء المباشر من المزارعين. هذا النموذج لا يقلل التكلفة فحسب، بل يدعم المزارعين المحليين ويقوي الاقتصاد المحلي، مما يخلق دورة إيجابية من الاكتفاء الذاتي النسبي.
الطريق للأمام: بناء نظام غذائي مقاوم للأزمات
الرؤية طويلة المدى للأمن الغذائي المستدام في اليمن تتطلب تحولًا جذريًا من نموذج الاعتماد على المساعدات إلى نموذج الاعتماد على الذات. هذا التحول لا يعني رفض المساعدات الدولية، بل إعادة تشكيلها لتصبح أداة لبناء القدرات بدلًا من مجرد إسعاف مؤقت. النموذج المنشود يقوم على استثمار 60% من المساعدات في البناء والتطوير، و40% في الإغاثة المباشرة، عكس النسبة الحالية.
دور المجتمع الدولي يجب أن يتطور من مقدم للمساعدات الطارئة إلى شريك في التنمية الاستراتيجية. هذا يعني الاستثمار في البنية التحتية الزراعية، ونقل التكنولوجيا المناسبة، وبناء القدرات المحلية لإدارة الموارد المائية والزراعية. الأولوية يجب أن تُعطى للمشاريع التي تحقق الاكتفاء الذاتي التدريجي والتي يمكنها الاستمرار دون دعم خارجي مستمر.
خطة العمل العاجلة للأشهر المقبلة تتطلب تحركًا سريعًا على ثلاثة محاور: أولًا، استثمار فترة تحسن الريال في شراء المعدات الزراعية والبذور للموسم القادم. ثانيًا، تنظيم حملة مجتمعية لإعادة تأهيل الأراضي الزراعية المهجورة باستخدام العمالة المحلية. ثالثًا، إنشاء صناديق مجتمعية للطوارئ الغذائية تمولها نسبة من المساعدات النقدية الحالية.
مؤشرات النجاح في هذا التوجه تشمل تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية بنسبة 10% سنويًا، وزيادة الإنتاج المحلي من الخضروات والحبوب بنسبة 25% خلال ثلاث سنوات، وتحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي في 30% من المجتمعات الريفية خلال خمس سنوات. هذه المؤشرات طموحة لكنها قابلة للتحقيق إذا تضافرت الجهود المحلية والدولية في إطار استراتيجية واضحة تركز على بناء القدرات بدلًا من مجرد تقديم الإغاثة.
نافذة الفرصة التي فتحها تحسن الريال اليمني لن تبقى مفتوحة طويلًا، والفجوة التمويلية البالغة 441 مليون دولار تلوح في الأفق كتهديد حقيقي لملايين اليمنيين. لكن التحدي الأكبر ليس في نقص المال، بل في كيفية استثماره لبناء مستقبل غذائي مستدام. المجتمع اليمني أثبت مرارًا قدرته على الصمود والإبداع في أصعب الظروف، والحلول المحلية التي تنبثق من المجتمعات نفسها تحمل بذور الأمل الحقيقي. الوقت الآن ليس للانتظار، بل للعمل الجماعي الذي يحول أزمة اليوم إلى فرصة لبناء غد أكثر أمنًا واستقلالية غذائية.